وكيف ينطبق على الرأي الظني بما أنه رأي ظني. ثم يقول : ( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) فيصدق بذلك أن الذي حكم به داود أيضا كان حكما علميا لا ظنيا ولو لم يشمل قوله : « وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً » حكم داود في الواقعة لم يكن وجه لإيراد الجملة في المورد.
على أنك سمعت أن قوله : « وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ » لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن الحكم كان واحدا ومصونا عن الخطإ. فلا يبقى إلا أن يكون حكمهما واحدا في نفسه مختلفا من حيث كيفية الإجراء وكان حكم سليمان أوفق وأرفق.
وقد وردت في روايات الشيعة وأهل السنة ما إجماله أن داود حكم لصاحب الحرث برقاب الغنم وسليمان حكم له بمنافعها في تلك السنة من ضرع وصوف ونتاج.
ولعل الحكم كان هو ضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها وكان ذلك مساويا لقيمة رقاب الغنم فحكم داود لذلك برقابها لصاحب الحرث ، وحكم سليمان بما هو أرفق منه وهو أن يستوفي ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة والمنافع المستوفاة من الغنم كل سنة تعدل قيمتها قيمة الرقبة عادة.
فقوله : « وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ » أي واذكر داود وسليمان « إِذْ » حين « يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ « إِذْ » حين « نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ » أي تفرقت فيه ليلا وأفسدته « وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ » أي لحكم الأنبياء ، وقيل : الضمير راجع إلى داود وسليمان والمحكوم له ، وقد عرفت ما فيه ، وقيل : الضمير لداود وسليمان لأن الاثنين جمع وهو كما ترى « شاهِدِينَ » حاضرين نرى ونسمع ونوقفهم على وجه الصواب فيه « فَفَهَّمْناها » أي الحكومة والقضية « سُلَيْمانَ وَكُلًّا » من داود وسليمان « آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً » وربما قيل : إن تقدير صدر الآية « وآتينا داود وسليمان حكما وعلما » إذ يحكمان إلخ.
قوله تعالى : « وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ » التسخير هو تذليل الشيء بحيث يكون عمله على ما هو عليه في سبيل مقاصد المسخر ـ بكسر الخاء ـ وهذا غير الإجبار والإكراه والقسر فإن الفاعل فيها خارج عن مقتضى اختياره أو طبعه بخلاف الفاعل المسخر ـ بفتح الخاء ـ فإنه جار على مقتضى طبعه واختياره كما أن إحراق الإنسان الحطب بالنار فعل تسخيري من النار وليست بمقسورة وكذا فعل الأجير لمؤجره فعل تسخيري من الأجير وليس بمجبر ولا مكره.
ومن هنا يظهر أن معنى تسخير الجبال والطير مع داود يسبحن معه أن لهما