و «أنّ امرأة يهودية سحرته وجعلت ذلك السحر راعوفة البير (١) فلما استخرج ذلك زال عن النبي عليه الصلاة والسلام ذلك العارض» (٢) ونزلت المعوّذتان بسببه. وثانيها : «أنّ امرأة أتت عند عائشة رضياللهعنها فقالت : إني ساحرة فهل لي من توبة فقالت وما سحرك؟ فقالت : صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السّحر ، فقالا لي يا أمّة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت. فقالا لي : اذهبي فبولي على ذلك الرماد فذهبت لأبول عليه ، ففكرت في نفسي ، فقلت لا أفعل. وجئت إليهما فقلت : قد فعلت. فقالا لي : ما رأيت لمّا فعلت؟ فقلت : ما رأيت شيئا. فقالا لي : أنت على رأس أمرك ، فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت. فقالا لي : اذهبي فافعلي. فذهبت ففعلت. فرأيت كأنّ فارسا مقنعا بالحديد خرج من فرجي فصعد إلى السماء ، فجئتهما فأخبرتهما. فقالا : إيمانك خرج عنك ، وقد أحسنت السّحر. فقالت : وما هو؟ قالا : ما تريدين شيئا يتصوّر في وهمك إلاّ كان فصورت في نفسي حبّا من حنطة فإذا أنا بحبّ أنزع ، فخرج من ساعته سنبله. فقلت : انطحن ، فانطحن وانخبز وأنا لا أريد شيئا إلاّ حصل. فقالت عائشة رضياللهعنها : ليس لك توبة» (٣). انتهى من التفسير الكبير.
وقال الشيخ عبد الحقّ الدهلوي في مدارج النّبوّة : إنّ السّحر حرام. وقال بعضهم : إنّ تعلّمه بنية دفع السّحر عن نفسه ليس بحرام. والسّاحر الذي ليس في سحره كفر يستتاب ، وأمّا إذا اشتمل على الكفر فيقتل. وفي قبول نوبته اختلاف ؛ كالزنديق الذي ينكر الدّين والنّبوّة والحشر والنّشر والقيامة.
وأمّا حقيقة السّحر ففيها خلاف ؛ فبعضهم يقول : إنّه مجرّد تخييل وإيهام. وهذا ما اختاره كلّ من أبي بكر الأسترآبادي الشافعي وأبي بكر الرازي من الحنفية وطائفة أخرى.
وإنّ جمهور العلماء متفقون على أن السّحر أمر حقيقي ، ويدل على ذلك ظاهر الكتاب والأحاديث المشهورة. ولكنهم مختلفون على حقيقة تأثير السّحر فقط في تغيير المزاج ، فهو إذن نوع من المرض أو أنّ أثره يصل إلى حدّ التحوّل ، يعني انقلاب حقيقة الشيء إلى شيء آخر. مثل الحيوان يصير جمادا ، أو بالعكس ، والإنسان حمارا أو خروفا أو أسدا وبالعكس. والجمهور يقولون بذلك.
وأمّا بعضهم فيقول : ليس للسّحر ثبوت ولا وقوع ، وهذا كلام باطل ومكابرة لأنّ القرآن والسّنّة يصرّحان بعكس ذلك. والسّحر من الحيل الصناعية الحاصلة بأعمال وأسباب عن طريق الاكتساب (والتعلم). وأكثر العاملين في هذا المجال هم من أهل الفسق والفساد. وإذا كان السّحر في حال الجنابة فتأثيره أشدّ ، بل إنّه إذا كانت الجنابة ناشئة عن وطء حرام أو المحارم فإنّه أشدّ تأثيرا. أعاذنا الله من السّحر ومن الساحر.
وقد نقل بإسناد صحيح أنّ اليهود (في المدينة) قد سحروا النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقد كان مفعول السّحر ظاهرا كالنسيان وتخيّل بعض الأمور
__________________
(١) البئر (م ، ع).
(٢) الرازي ، التفسير ، تفسير قوله تعالى (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) ، ٢ / ٢٣١. وذكر أيضا ، الرازي في التفسير ، تفسير سورة الفلق ، ٣٢ / ١٩٥ ، بأن (النفاثات) هن بنات لبيد بن اعصم اليهودي سحرن النبي صلىاللهعليهوسلم.
(٣) الرازي ، تفسير ، تفسير سورة البقرة ٢ / ٢٣١.