ولم يقدر لقلة بضاعته على تمييز الحق من الباطل ، فتسلم طرفي النقيض في مسألة بعد مسألة ، فأساء الظن بالمنطق ، وزعم أن العلوم نسبية غير ثابتة ، والحقيقة بالنسبة إلى كل باحث ما دلت عليه حجته.
وليعالج أمثال هؤلاء بإيضاح القوانين المنطقية ، وإراءة قضايا بديهية لا تقبل الترديد في حال من الأحوال ، كضرورة ثبوت الشيء لنفسه ، واستحالة سلبه عن نفسه وغير ذلك ، وليبالغ في تفهيم معاني أجزاء القضايا ، وليؤمروا أن يتعلموا العلوم الرياضية.
وهاهنا طائفتان أخريان من الشكاكين ، فطائفة يتسلمون الإنسان وإدراكاته ، ويظهرون الشك في ما وراء ذلك ، فيقولون نحن وإدراكاتنا ونشك فيما وراء ذلك ، وطائفة أخرى تفطنوا بما في قولهم ، نحن وإدراكاتنا من الاعتراف بحقائق كثيرة ، من أناسي وإدراكات لهم ، وتلك حقائق خارجية ، فبدلوا الكلام بقولهم ، أنا وإدراكاتي وما وراء ذلك مشكوك.
ويدفعه أن الإنسان ربما يخطي في إدراكاته ، كما في موارد أخطاء الباصرة واللامسة ، وغيرها من أغلاط الفكر ، ولو لا أن هناك حقائق ، خارجة من الإنسان وإدراكاته ، تنطبق عليها إدراكاته أو لا تنطبق ، لم يستقم ذلك بالضرورة.
وربما قيل ، إن قول هؤلاء ليس من السفسطة في شيء ، بل المراد أن من المحتمل ، أن لا تنطبق الصور الظاهرة للحواس ، بعينها على الأمور الخارجية ، بما لها من الحقيقة كما قيل ، إن الصوت بما له من الهوية الظاهرة على السمع ، ليس له وجود في خارجه ، بل السمع إذا اتصل بالارتعاش بعدد كذا ، ظهر في السمع في صورة الصوت ، وإذا بلغ عدد الارتعاش كذا ارتعاشا ، ظهر في البصر في صورة الضوء واللون ، فالحواس التي هي مبادي الإدراك ، لا تكشف عما وراءها من الحقائق ، وسائر الإدراكات منتهية إلى الحواس.