ولا غرو في أن يكون الصدر والذيل راجعين إلى موضوع وما ورد في الاَثناء راجعاً إلى غيره فإنّ ذلك من فنون البلاغة وأساليبها ، نرى نظيره في الذكر الحكيم وكلام البلغاء ، وعليه ديدن العرب في محاوراتهم ، فربما يرد في موضوع قبل أن يفرغ من الموضوع الذي كان يبحث عنه ثم يرجع إليه ثانياً.
يقول الطبرسي : من عادة الفصحاء في كلامهم انّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه ، والقرآن من ذلك مملوء ، وكذلك كلام العرب وأشعارهم(١).
قال الشيخ محمد عبده : إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالاِنسان من شأن إلى شأن ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة(٢).
وروي عن الاِمام جعفر الصادق عليهالسلام : «إنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء» (٣).
ولاَجل أن يقف القارىَ على صحة ما قاله هوَلاء الاَكابر نأتي بشاهد ، فنقول : قال سبحانه ناقلاً عن «العزيز» مخاطباً زوجته : (إِنّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِين) (٤). نرى أنّ العزيز يخاطب أوّلاً امرأته بقوله : (إِنّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ) وقبل أن يفرغ من كلامه معها ، يخاطب يوسف بقوله : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) ... ثم يرجع إلى الموضوع الاَوّل ويخاطب زوجته بقوله : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ) ... فقوله (يُوسُفُ
__________________
١. مجمع البيان : ٤ / ٣٥٧.
٢. تفسير المنار : ٢ / ٤٥١.
٣. الكاشف : ٦ / ٢١٧.
٤. يوسف : ٢٨ ـ ٢٩.