(وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من العداوة والخيانة (أَكْبَرُ) أعظم ، قد بينا (لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) عن الأزهر بن راشد قال : كان أنس بن مالك يحدّث أصحابه ، فإذا حدّثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن يفسّره لهم ، فحدثهم ذات يوم وقال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا» [١٠٩] (١).
فأتوا الحسن فأخبروه بذلك ، فقال : إنّما (٢) قوله : «لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا» ، فإنه يقول : لا تنقشوا في خواتيمكم محمدا. وأما قوله : «لا تستضيئوا بنور (٣) المشركين» ، فإنّه يقول لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم. وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) الآية.
وقال عياض الأشعري : وفد أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب ، فقال : إن عندنا كاتبا حافظا نصرانيا من حاله كذا وكذا. فقال : ما لك قاتلك الله؟ أما سمعت قول الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) الآية ، وقوله (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) (٤)؟ هلا اتخذت حنيفيّا! قال : قلت : له دينه ولي ديني ، ولي كتابته ، لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلّهم الله ولا أدنيهم إذ قصاهم الله (٥).
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ) ، (... ها) تنبيه ، و (أَنْتُمْ) كناية للمخاطبين من الذكور ، (أُولاءِ) اسم الجمع المشار إليه (تُحِبُّونَهُمْ) خبر عنهم. ومعنى الآية : أنتم أيها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من المصاهرة والمحالفة والرضاع والقرابة والجوار ، (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) هم ؛ لما بينكم من مخالفة الدين. هذا قول أكثر المفسرين. وقال المفضل : معنى (يُحِبُّونَهُمْ) تريدون لهم الإسلام ، وهو خير الأشياء ، ولا تبخلون عليهم بدعائهم إلى الجنة ، (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) هم ؛ لأنهم يريدونكم على الكفر وهو الهلاك. أبو العالية ومقاتل : هم المنافقون يحبهم المؤمنون بما أظهروا من الإيمان ولا يعلمون ما في قلوبهم.
قتادة : في هذه الآية والله إنّ المؤمن ليحب المنافق ويلوي إليه ويرحمه ، ولو أنّ المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه (٦).
(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) يعني بالكتب كلها ولا يؤمنون هم بكتابكم ، فـ (إِذا لَقُوكُمْ قالُوا
__________________
(١) مسند أحمد : ٣ / ٩٩.
(٢) كذا في المخطوط ، والظاهر أنّها : أمّا.
(٣) مرّت في أوّل الحديث بلفظ : بنار.
(٤) المائدة : ٥١.
(٥) راجع تفسير القرطبي : ٤ / ١٧٩.
(٦) تفسير الطبري : ٤ / ٨٧.