ويرجو العباد في الصغير ، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب ، فما بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع بعباده؟ أتخاف أن تكون في رجائك له كاذبا ، أو تكون لا تراه للرجاء موضعا؟ وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه فجعل خوفه من العباد نقدا ، وخوفه من خالفه ضمارا (١) ووعدا وكذلك من عظمت الدنيا في عينه وكبر موقعها في قلبه ، آثرها على الله فانقطع إليها وصار عبدا لها ، ولقد كان في رسوله الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كاف لك في الاسوة ودليل على ذم الدنيا وعيبها وكثرة مخازيها ومساويها ، إذ قبضت عنه أطرافها ووطأت لغيره أكنافها وفطم عن رضاعها وزوى عن زخارفها ، وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله إذ يقول : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير والله ما سأله إلا خبزا يأكله ، لانه كان يأكل بقلة الارض ، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه ، لهزاله وتشذب (٢) لحمه ، وإن شئت ثلثت بداود صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة ، فلقد كان يعمل من سفائف الخوص بيده ويقول لجلسائه : أيكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها ، وإن شئت قلت في عيسى بن مريم فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن وكان إدامه الجوع وسراجه بالليل القمر وظلاله في الشتاء مشارق الارض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الارض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه ولا مال يلفته ولا طمع يذله ، دابته رجلاه وخادمه يداه. فتأس بنبيك الاطيب الاطهر صلىاللهعليهوآله فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لاثره ، قضم الدنيا قضما ولم يعرها طرفا ، أهضم أهل الدنيا كشحا (٣) وأخمصهم من الدنيا بطنا ، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها ، وعلم أن الله أبغض شيئا فأبغضه وحقر شيئا فحقره ، وصغر شيئا فصغره ، ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله وتعظيمنا ما صغر الله لكفى به شقاقا لله ومحادة عن أمر الله.
__________________
١ ـ الضمار الوعد المسوف.
٢ ـ الصفاق ككتاب : هو الجلد الاسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر أو جلد البطن وهو المراد ههنا. والتشذب : التفرق.
٣ ـ قضم الشيء : كسره بأطراف أسنانه وأكله ، والمراد الزهد في الدنيا والرضا منها بالدون. والهضم : خمص البطن وخلوها. والكشح ، ما بين السرة ووسط الظهر.