لثوران الفتن وإحياء الأحقاد والضغائن ، أو لعله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا الله تعالى ، ورضي بذلك يوسف موافقة لأمر الله ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن يوسف لما رأى سجودهم له اقشعر جلده ولكن لم يقل شيئا وكأن الأمر بتلك السجدة كان من تمام التشديد والبلية والله أعلم. (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) يقال : أحسن به وإليه بمعنى. (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) لم يذكر إخراجه من البئر لأنه نوع تثريب للإخوة وقد قال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) ولأنه لم يكن نعمة لأنه حينئذ صار عبدا وصار مبتلى بالمرأة ولأن هذا الإخراج أقرب وأشمل (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي من البادية سمى المكان باسم المصدر لظهور الشخص فيه من بعيد ، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش يتنقلون في المياه والصحارى. قال ابن الأنباري : بدا موضع معروف هنالك. روي عن ابن عباس أن يعقوب كان قد تحول إليه وسكن فيه ومنه قدم إلى يوسف ، على هذا كان يعقوب وولده أهل الحضر والبدو قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا والمعنى جاء بكم من قصد بدا ذكره الواحدي في البسيط. قال الجبائي والكعبي والقاضي : إنه تعالى أخبر عن يوسف أنه أضاف الإحسان إلى الله ونسب النزغ إلى الشيطان وهو الإفساد والإغراء ، ففيه دليل على أن الخير من الله دون الشر. وأجيب بأنه إنما راعى الأدب وإلا فليس فعل الشيطان إلا الوسوسة ، وأما صرف الداعية إلى الشر فلا يقدر عليه إلا الله تعالى فإن العاقل لا يريد ضرر نفسه. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) فإذا أراد حصول أمر هيأ أسبابه وإن كان في غاية البعد عن الأوهام. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بالوجه الذي تسهل به الصعاب (الْحَكِيمُ) في أفعاله حتى تجيء على الوجه الأصوب والنحو الأصلح. يحكى أن يوسف أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الورق والذهب وخزائن الحلي والثياب والسلاح وغير ذلك ، فلما أدخله خزائن القراطيس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل! قال : أمرني جبريل. قال : أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط إليه مني فسأله قال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] قال : فهلا خفتني. ثم إن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له قال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) شيئا من ملك الدنيا أو من ملك مصر لأنه كان دون ملك فوقه (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) بعضا من ذلك لأنه لا يمكن أن يحصل للإنسان في العمر المتناهي والاستعداد المعين المحصور سوى المتناهي من السعادات الدنيوية والكمالات الأخروية (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) منادى ثان أو صفة النداء الأول أي مبدعهما على النحو الأفضل من مادة سابقة