المغتذى شبيها به ، ثم عند استيلاء الحرارة على البدن وقت هيجان الشهوة يحصل ذوبان لجملة الأعضاء وتجتمع منه النطفة في أوعيتها ، وعلى هذا تكون النطفة جسما مختلفة الأجزاء والطبائع ، وإن كانت تخيل في الحس أنها متشابهة الأجزاء. وكيفما كان فالمقتضي لتولد البدن منها ليس هي الطبيعة الحاصلة لجوهر النطفة ودم الطمث ، لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار ، والقوّة الطبيعية إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة. وعلى هذا الحرف عول الحكماء في قولهم : البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعية في الكرة ، وإذا عملت في مادة مختلفة الأجزاء وكل مركب فإنه ينحل إلى بسائط فإنه يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضموم بعضها إلى بعض ، وكلا الأمرين غير مطابق للواقع ، فعلمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس بالطبيعة وإنما هو بتدبير الفاعل المختار وهو الله سبحانه ، وكيف لا والنطفة رطوبة سريعة الاستحالة؟ فالأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل ، والجزء الذين هو مادة القلب قد يحصل في الفوق ، فلا يكون حدوث أعضاء الحيوان على هذا الترتيب الخاص دائما ولا أكثريا ، وحيث كان كذلك علمنا أن حدوثها بإحداث مدبر مختار. ثم إن نزلنا عن جميع هذه المراتب فلا خلاف بين الحكم وبين المتكلم أن الطبيعة خرقاء وأنها ليست واجبة الوجود لذاتها فلا بد من الانتهاء الى الصانع الحكيم الخبير. أما قوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فقد ذكروا فيه وجهين : الأول فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مبين للحجة بعد أن كان نطفة لا حس به ولا حراك. وتقرير ذلك أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء من نفوس سائر الحيوانات ، ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من البيضة يعرف الصديق من العدو فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه. وحال الطفل بخلاف ذلك فانتقاله من تلك الحالة الخسيسة إلى أن يقوى على معرفة الإلهيات والفلكيات والعنصريات وعلى إيراد الشكوك والشبهات على النتائج والمقدمات إنما يكون بتدبير إله مختار قدير ينقل الأرواح من النقصان إلى الكمال ومن الجهالة إلى المعرفة. الوجه الثاني أن المراد فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيي العظام وهي رميم. فعلى الوجه الأول جوز أن يكون الخصيم «فعيلا» بمعنى «مفاعل» كالأكيل والشريب ، وأن يكون بمعنى مختصم ، وعلى الوجه الثاني تعين كونه بمعنى «مفاعل» والترجيح من الوجهين للأول بناء على أن هذه الآيات مسوقة لتقرير الدلائل على وجود الصانع الحكيم وقدرته لا لأجل وصف الإنسان بالتمادي في القحة والكفران. وقد يرجح الثاني بما روي أن أبيّ بن خلف الجمحي جاء بعظم رميم إلى