بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل ، ولأن (اسْتَوَتْ) أخصر لسقوط همزة الوصل. ثم قيل : (بُعْداً لِلْقَوْمِ) دون أن يقال «ليبعد القوم من بعد» بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك ، للتأكيد مع الاختصار ودلالة «لام» الملك على أن البعد حق لهم. وقول القائل «بعدا له» من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها. ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم. وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي ، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله : (وَفارَ التَّنُّورُ) ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله : (وَغِيضَ الْماءُ) ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين. ثم بين حال استقرار السفينة بقوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) وكان جبلا منخفضا فكان استواء السفينة عليه دليلا على انقطاع مادة الماء. ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض. قيل : كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب إجرام الكفار؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل ، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة. وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين. وهذا مع تكلفه لا يتمشى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات. والظاهر أن القائل في قوله : (وَقِيلَ بُعْداً) هو الله تعالى لتناسب صدر الآية ، ويحتمل أن يكون القائل نوحا وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام ، ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق.
وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية المراد بأبلغ وجه وأتمه. وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي أنها كالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة عذبة على العذبات سلسة على الأسلات ، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه. (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) أي أراده أن يدعوه (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) بعض سواء كان من صلبه أو ربيبا له (وَإِنَّ وَعْدَكَ) أي كل ما تعد به (الْحَقُ) الثابت الذي لا شك في إنجازه وقد وعدتني أن تنجي أهلي (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أعلمهم وأعدلهم لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل ، ويجوز أن يكون الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع. (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي من أهل دينك أو من أهلك الذين وعدتهم الإنجاء معك. ثم صرح