الذي لك أن تسميه وجوبا كما وصف به نفسه في قوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) [مريم : ٧١] ولكم من آية في القرآن دالة على أن الفعل قد يصدر منه صدورا لا يحتمل النقيض من ذلك قوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها).
وللمفسرين في معنى (أَمَرْنا) قولان : الأول أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي وعلى هذا اختلفوا في المأمور به ، فالأكثرون على أن الطاعة والخير. وقال في الكشاف : معناه وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم بالفسق ففسقوا. ولما كان من أصول الاعتزال أنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ذكر أن الأمر بالفسق هاهنا مجاز ، ووجهه أنه صب عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكان إيتاء النعمة سببا لإيثارهم الفسوق على الائتمار فكأنهم مأمورون بذلك. ثم إنه جعل تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا عن قبيل التكاليف بعلم الغيب ، ولم يجوّز أن تكون من قبيل «أمرته فعصاني» فإنه يفهم منه أن المأمور به طاعته ولكنه حكم بأنه مثل أمرته فقام أو أمرته فقرأ فإنه لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة. ولقائل أن يقول : كما أن قوله «أمرته فعصاني» يدل على أن المأمور به شيء غير المعصية من حيث إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله : «أمرته ففسق» يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به كما أن كونها معصية ينافي كونها مامورا بها ، وهذا ظاهر فلا أدري لم أصرّ جار الله على قوله مع ضعفه ومخالفته أصله. القول الثاني إن معنى : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أكثرنا فساقها. قال الواحدي : تقول العرب : أمر القوم. إذا كثروا ، وأمرهم الله إذا كثرهم ، وآمرهم أيضا بالمد واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله صلىاللهعليهوسلم : «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» (١) فالسكة النخيل المصطفة ، والمهرة المأمورة كثيرة النتاج. وقد حمل بعضهم الحديث على الأمر ضد النهي أي قال الله لها : كوني كثيرة النسل فكانت ، وروي أن رجلا من المشركين قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : إني أرى أمرك هذا حقيرا. فقال صلىاللهعليهوسلم : إنه سيأمر أي سيكثر وسيكبر. والمترف في اللغة المنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش : (فَفَسَقُوا فِيها) خرجوا عما أمرهم الله (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) استوجبت العذاب (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أهلكناها على سبيل الاستئصال. قال الأشاعرة : ظاهرة الآية يدل على أنه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء ، ثم توسل
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٤٦٨).