المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر من حيث إنه لا يقصد الفعل بل الفاعل كما في قول حاتم : لو ذات سوار لطمتني. لا يقصد اللطمة بل اللاطمة أي لو حرة لطمتني وقوله : (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) أي خوف الفقر من أنفق ماله إذا ذهب وأمسكتم متروك المفعول معناه لبخلتم (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي بخيلا شحيحا ، والقتر والإقتار والتقتير التقصير في الإنفاق. وهذا الخبر لا ينافي ما قد يوجد في الإنسان من هو كريم جواد لأن اللام للجنس أي هذا الجنس من شأنه الشح إذ كان باقيا على طبعه لأنه خلق محتاجا إلى ضرورات المسكن والملبس والمطعوم والمنكوح ، ولا بد له في تحصيل هذه الأشياء من المال فيه تندفع حاجاته وتتم الأمور المتوقفة على التعاون ، فلا جرم يحب المال ويمسكه لأيام الضرورة والفاقة. ومن الناس من يحب المال محبة ذاتية لا عرضية فإذا الأصل في الإنسان هو البخل والجود منه إنما هو أمر تكلفي أو عرضي طلبا للثناء أو الثواب. وقيل : المراد بهذا الإنسان المعهود السابق ممن قالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا) بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن الأرض لبخلوا بها.
ثم قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ) فكأنه أراد أنا آتيناه معجزات مساوية لهذه الأمور التي اقترحتموها بل أقوى منها وأعظم ، فليس عدم الاستجابة إلى ما طلبتموه من البخل ولكن لعدم المصلحة أو لعدم استتباع الغاية لعلمنا بإصراركم والختم على قلوبكم ، عن ابن عباس : أن الآيات التسع هن : العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل. وعن الحسن : الطوفان والسنون ونقص الثمرات. مكان الحجر والبحر والطور. وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب عنهن فذكر من جملتها : حل عقدة اللسان والطمس على أموالهم. فقال له عمر : لا يكون الفقيه إلا هكذا. أخرج يا غلام الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة. وعن صفوان بن عسال أن بعض اليهود سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ذلك فقال : «أوحى الله إلى موسى أن قل لبني إسرائيل : لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تفشوا سر أحد إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف ، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت ، فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالا : «إنك نبي ولو لا أنا نخاف القتل لاتبعناك» (١). قال الإمام فخر الدين
__________________
(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة ١٧ باب ١٥. أحمد في مسنده (٤ / ٢٣٩).