فاحذرني (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي زمانا طويلا من الملاوة ، أو أراد مليا بالذهاب والهجران مطيقا له قويا عليه قبل أن أثخنك بالضرب.
فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على التمرد والجهالة (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) يعني سلام توديع ومتاركة كقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] وفيه أن متاركة المنصوح إذا ظهر منه آثار اللجاج من سنن المرسلين ، ويحتمل أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ورفقا به بدليل قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) بليغا في البر والإلطاف وقد مر في آخر «الأعراف». احتج بالآية بعض من طعن في عصمة الأنبياء قال : إنه استغفر لأبيه الكافر وهو منهي عنه لقوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] الآية. ولقوله في الممتحنة (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) إلى قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] فلو لم يكن هذا معصية لم يمنع من التأسي به. والجواب لعل إبراهيم عليهالسلام في شرعه لم يجد ما يدل على القطع بتعذيب الكافر أو لعل بهذا الفعل منه من باب ترك الأولى ، أو لعل الاستغفار بمعنى الاستبطاء كقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] والمعنى سأسأل ربي أن يخزيك بكفرك ما دمت حيا. والجواب في الحقيقة ما مر في آخر سورة التوبة في قوله عز من قائل (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤] والمنع من التأسي لا يدل على المعصية ، فلعل الاستغفار مع ذلك الشرط كان من خصائصه كما أن كثيرا من الأمور كانت مباحة للرسول الله صلىاللهعليهوسلم هي محرمة علينا. ثم صرح بما تضمنه السلام من التوديع والهجران فقال : (وَأَعْتَزِلُكُمْ) أي أهاجر إلى الشام (وَ) أعتزل (ما تَدْعُونَ) أي ما تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) وقد يعبر بالدعاء عن العبادة لأنه منها ومن وسائطها ، يدل على هذا التفسير قوله : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ) أما قوله : (وَأَدْعُوا رَبِّي) فيحتمل معنيين : العبادة والدعاء كما يجيء في سورد الشعراء. وفي قوله : (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم وعبادتها مع التواضع وهضم النفس المستفاد من لفظ (عَسى).
قال العلماء : ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم لما ترك أباه الكافر وقومه فرارا بدينه عوّضه الله أولادا مؤمنين أنبياء وذلك قوله : (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ) شيئا (مِنْ رَحْمَتِنا) عن الحسن : هي النبوة. وعن الكلبي : المال والولد. والأظهر أنها عامة في ذلك كل خير ديني ودنيوي ولسان الصدق الثناء الحسن ، عبر