وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) فانتهاء جميع الحوادث اليه وتيسير الأمور الكلية والجزئية من عنده ، وهو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته.
الثانية : إنه تعالى خاطبه أولا بالتوحيد (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وثانيا بالعبادة (فَاعْبُدْنِي) وثالثا بمعرفة المعاد (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) ورابعا بمعرفة الحكمة في جملة أفعاله (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) وخامسا بعرض المعجزات الباهرة عليه (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) وسادسا بإرساله إلى أعظم الناس كفرا وكانت هذه التكاليف الشاقة سببا لضيق العطن وانحلال عقدة الصبر فلا جرم تضرع إلى الله سبحانه قائلا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) وهاهنا دقيقة هي أن شرح الصدر مقدمة لسطوح الأنوار الإلهية في القلب ، والاستماع مقدّمة الفهم. ولما أعطى موسى المقدّمة بقوله (فَاسْتَمِعْ) نسج موسى على ذلك المنوال فقال (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) ولما آل الأمر إلى محمد وكان خاتم النبيين ومقصودا من الكائنات ومخاطبا بقوله (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] أوتي النتيجة فقيل له (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] ووصف بقوله (وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٦] فشرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلا للنور ، والسراج المنير هو المعطي للنور. فالتفاوت بين موسى ومحمد عليهماالسلام هو التفاوت بين الآخذ والمعطي ولهذا قال موسى : اللهم اجعلني من أمة محمد.
الثالثة : إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدها وصف ذاته بالنور (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] وثانيها الرسول (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١٥] وثالثها الكتاب (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف : ١٥٧] ورابعها الإيمان (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [التوبة : ٣٢] وخامسها عدل الله (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩] وسادسها ضياء القمر (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] وسابعها النهار (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] وثامنها البينات (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤] وتاسعها الأنبياء (نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥] وعاشرها المعرفة (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النور : ٣٥] فكأن موسى عليهالسلام قال أوّلا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بمعرفة أنوار جلال كبريائك. وثانيا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك. وثالثا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك. ورابعا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك. وخامسا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. وسادسا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلالك وعزتك كما فعله إبراهيم صلوات