ثم بين أن له أسوة بالأنبياء السالفة والرسل السابقة في كل ما يأتي ويذر فقال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) خصص أولا ثم عمم ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا ، فقد لا يكون معه كتاب بل يؤمر بأن يدعو إلى شريعة من قبله ، وقد لا ينزل عليه الملك ظاهرا وإنما يرى الوحي في المنام أو يخبره بذلك رسول في عصره ، ولا بد للكل من المعجزة. عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل : فكم الرسل منهم؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا. قال عامة المفسرين في سبب نزول الآية : أنه صلىاللهعليهوسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم. وكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [النجم : ١] فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ـ ٢٠] وكان ذلك التمني في نفسه فجرى على لسانه «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرقت قريش مسرورين وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبرائيل وقال : ما صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وخاف خوفا شديدا فأنزل الله تعالى هذه الآية. واعترض المحققون على هذه الرواية بالقرآن والسنة وبالمعقول. أما القرآن فكقوله (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦] وقوله (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] وقوله (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ) [الإسراء : ٧٤] نفى القرب من الركون فكيف به؟ وأما السنة فهي ما روي عن ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة ، وقد صنف فيه كتابا وقال الإمام أبوبكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقد روى البخاري في صحيحه أنه صلىاللهعليهوسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق. وأما المعقول فهو أن النبي صلىاللهعليهوسلم بعث لنفي الأوثان فكيف يثبتها؟ وأيضا إنه بمكة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولا سيما في محفل غاص. وأيضا إن معاداتهم إياه كانت أكثر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجدا قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر. وأيضا منع الشيطان من أصله أولى من تمكنه من الإلقاء ثم نسخه. وأيضا لوجوزنا ذلك لارتفع الأمان من الشرع ، ولناقض قوله (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [المائدة : ٦٧] وحال الزيادة في الوحي كحال النقصان منه. إذا عرفت هذا فللأئمة في تأويل الآية قولان : الأول أن التمني بمعنى القراءة كما سلف في البقرة في قوله (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) [الآية :