هذا معنى كلام الشيخ ، وهو حق ، لأن المراد بالآية الحثّ على النظر ، والتقريع على تركه ، فإن أراد هذا المفسّر بتفسيره أن المعنى لمن كان له عقل مطلقا فهو ظاهر الفساد ، وإن أراد أن المعنى لمن كان له عقل ينتفع به ويعمله فيما خلق له من النظر فتفسير القلب بالعقل ، ثم تقييد العقل بما قيّده ، عري عن الفائدة ؛ لصحة وصف القلب بذلك ، بدليل قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [الأعراف : الآية ١٧٩].
واعلم أن المثل السائر لما كان فيه غرابة ، استعير لفظة «المثل» للحال ، أو الصفة ، أو القصة ، إذا كان لها شأن وفيها غرابة.
وهو في القرآن كثير ، كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : الآية ١٧] أي : حالهم العجيب الشأن كحال الذي استوقد نارا ، وكقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النّحل : الآية ٦٠] أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ، وقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) [الفتح : الآية ٢٩] أي صفتهم وشأنهم المتعجب منه ، وكقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [محمّد : الآية ١٥] أي : فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة ، ثم أخذ في بيان عجائبها ، إلى غير ذلك.
فصل
في بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييليّة
قد يضمر التشبيه في النفس فلا يصرّح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه ، ويدل عليه بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به ، من غير أن يكون هناك أمر ثابت حسّا أو عقلا أجري عليه اسم ذلك الأمر ؛ فيسمى التشبيه استعارة بالكناية ، أو مكنيّا عنها ، وإثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية ، والعلم في ذلك قول لبيد : [بن ربيعة]
وغداة ريح قد كشفت وقرّة |
|
إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (١) |
فإنه جعل للشّمال يدا ، ومعلوم أنه ليس هناك أمر ثابت حسا أو عقلا تجري اليد عليه ، كإجراء الأسد على الرجل الشجاع ، والصراط على ملّة الإسلام فيما سبق ، ولكن لما شبّه الشمال ـ لتصريفها القرّة على حكم طبيعتها في التصريف ـ بالإنسان المصرّف لما زمامه بيده ، أثبت لها يدا على سبيل التخييل ؛ مبالغة في تشبيهها به ، وحكم الزمام ـ في استعارته للقرّة ـ حكم اليد في استعارتها للشّمال ، فجعل للقرّة زماما ؛ ليكون أتمّ في
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان لبيد ص ٣١٥ ، وأساس البلاغة (بدي) ، ورواية صدر البيت في الديوان :
وغداة ريح قد وزعت ومرّة