الناصر لدين الله (١) لحفظ حواصل الحرم ، والمصحف الكريم العثماني ، وعدة صناديق كبار متقدمة التاريخ صنعت بعد الثلاثمائة ، وكانت عمارتها سنة ست وسبعين وخمسمائة ، وجميع ما فيها سالم إلى اليوم ، وقد سلمت من الحريق ببركة المصحف الكريم ، ولكونها متوسطة في المسجد ، ومن ذلك الدّكّة الخشب التي يبلّغ عليها المؤذّنون خلف الإمام.
ومما يشيد بناء هذه المسألة ويقوّي أركانها ، إباحة العلماء المالكيين التعزير في المسجد الشريف ، وإنّما ذلك تيسير للحكّام لئلا يتكلفوا الخروج عند إقامة الحدود ، مع العلم بما يجب للمسجد من التنزيه عما هو أقل من هذا ، مثل رفع الصّوت بالعلم ، بل أدنى من ذلك ، حتى قيل : لا توقد فيه النار ، لكنّهم راعوا المصلحة العامة ، ورأوا أنّ المسجد بني للشّرع وأهله ، ولم يبن لغيره.
ثم يرجع الكلام مع هذا الذي تصدّى للإنكار والإفتاء ، هلّا أنكر غير مجلس الحكام من مجالس لغيره نصبت ، ومتكآت خصّصت ، وبالفضّة بيضت ، ودكاك عند الأبواب ، ومواضع من المسجد محجزة ، وخلوات مبتدعة؟
لو تكلم في جميعها لساعده الخلق ، وشكره الحقّ ، بل تكلّم بالهوى ، ومن اتبع هواه فقد غوى. ثمّ إنّه لم ينكر الحجر المرآة الذي عن قريب وضع ، وأثبت في الحائط من داخل المسجد وجصص ، وهو من البدع المنكرة ، يستدعي شرورا متعددة ، ومنكرات متجددة ، ولا يسع ذكرها هنا لكثرة تعدادها.
ثمّ هذا الحجر الذي وقع فيه الكلام ، وضعه متقدّم ، وضع في زمن غير هذا الزمن ، فإن خفي عليه ذلك ، فليسأل عن ذلك من سبقه من أهل ذلك الزمان الذي هو خير الزمنين ، وأعدل القرنين ، وإنّما غيّر اسمه ، ورفع
__________________
(١) هو : الناصر لدين الله : أحمد أبو العباس بن المستضيء بأمر الله ؛ ولد سنة ٥٥٣ ه ، وكانت فترة ولايته ٤٧ سنة ، وهو أول من كسى الكعبة ديباجا أسود. انظر ترجمته في «تاريخ الخلفاء» ص ٤١٣ ـ ٤٢٢.