ولقد كان في وسط المسجد سقاية يحمل إليها الماء من العين ، بناها شيخ الخدّام في ذلك الوقت ، وأوقف عليها أوقافا من ماله ، وكانت متقدّمة على النخل ، تقديرها خمسة عشر ذراعا في مثلها ، وجعل في وسطها مصرفا للماء مرخما ، ونصب فيها مواجير للماء وأزيارا ، ودوارق وأكوابا ، حجرها بالخشب والجريد ، وجعل لها غلقا من حديد ، واستمرت السنين العديدة ، فكثر الشرّ فيها والتزاحم عندها ، وصار يدخلها من يتوضأ فيها ، وربّما يزيل عنه فيها الأذى من استقرب المدا.
ثمّ تعدى الحال في شرّها إلى أن تضورب عليها بالسلاح ، وطلب الخدّام شريفا أساء على أهل الحرم ، فسلّ سيفه على الناس ، وغلقت الأبواب ، واحتمى بالسكين حتى جاءت رسل الأمير فأخرجوه ، وذلك كلّه بسبب السقاية ومن فيها.
فلما غلبت مفسدتها على مصلحتها ، أزيلت عن اجتماع من القاضي شرف الدين الأميوطي (١) ، والشيخ ظهير الدين (٢) ، فانظر هذا التحجير الكثير في وسط المسجد كيف اغتفر للمصلحة حتى كثرت المفسدة ، وتعدّت فأزيلت.
وممّا أدركت من البدع التي أراح الله منها ، ما كان يفعله الشرفاء من آل سنان وغيرهم ، كانوا إذا أظل الحاجّ يسارعون إلى الحجرة بصناديق وكراسي ينصبونها حول الحجرة الكريمة يتخذونها مقامات ، يجلسون عليها للتزوير عند الصندوق الذي قابل رأس النبي صلىاللهعليهوسلم واحدا ، وعند المسمار الذي في الرخام اليوم واحدا ، وعند أبي بكر الصديق رضياللهعنه واحدا ، وعند بيت فاطمة رضياللهعنها واحدا ، وعند المحراب الذي في الحجرة واحدا ، لا يقدر أحد أن يشاركهم في مناصبهم ، ولا ينفصل عنهم الزائر إلا بشيء ، وإن كان معه شمع أو ماء ورد ، أو هدية أو نذر ، فهم الآخذون له يجعلونه في صناديقهم بدعا مقرونة بجاه الولاة من الشرفاء.
__________________
(١) هو : محمد بن محمد بن إبراهيم شرف الدين الأميوطي ؛ ولد سنة ٦٧٤ ه ، ولي القضاء والإمامة والخطابة بالمدينة إلى أن توفي سنة ٧٤٥ ه. ترجمته في : «الدرر الكامنة» (٤ / ١٥٩).
(٢) هو : مختار الأشرافي ، ظهير الدين شيخ الحرم.