لم يزل كذلك حتى قويت السنة وأهلها ، واتفقت الجماعة كلها على قاضيها وشيخها ، فزال ذلك ببركة نبينا صلىاللهعليهوسلم ، وإنما ذلك بسبب اجتماع الكلمة ، وحسن النية ، وفّقنا الله لما يرضيه ، ورضّانا بما يقضيه ، وزال ببركة الاجتماع ، أشياء كثيرة من هذه الأنواع ، منها : أني أدركت قرّاء الإمامية وأئمتها إذا دخل شهر رمضان ، أخذوا من القبة شمعا وشمعدانات على عددهم ينصبونها بعد صلاة الآخرة في مجالسهم ، ويدعون في كتبهم ، ويرفعون أصواتهم حول الروضة ، والناس في الصّلاة لا يعلمون صلاتهم من رفع أصواتهم ، ولا يسمعون قراءة إمامهم لكثرة قرائهم ، ويجتمع عليهم من الناس خلق كثير ، ويتخللون تلك الأدعية بسجدات لهم مؤقتة. ولم يزالوا كذلك إلى أن اجتمعت الكلمة ، وظهر الحق ، فمنعوا من ذلك إلا في بيوتهم ومجالسهم ، فانحسمت المادة ، وزالت تلك العادة.
ولقد أدركت جماعة من المجاورين والخدّام لا يقرؤون كتبهم ، ولا يسمعون حديث نبيهم إلا في خفية ، حتى قدم الصاحب ابن حنّا (١) رحمهالله تعالى ، وأقام بالمدينة فكثّر من قراءة المواعيد ، وقام على آل سنان والقياشين ، فهابوا مكانه من السلطان ، وأذعنوا واستعملوا التقية حتى رجعوا فيما زعموا كلهم سنّة.
وكان يأتيه من الينبع قوافل بالدقيق والقمح والأرز ، وأنواع الحبوب ، فيعطي منه الخدام والمجاورين ، ويمد رؤوساء الإماميين وكبار الشرفاء المقيمين ، حتى أشهدوا على أنفسهم أنهم سنّة ، ولا يحكمون بأحكام البدعة ، وكان الحكّام منهم والفقهاء منهم ، ولم يزالوا كذلك حتى سافر الصّاحب عنهم ، فرجعوا إلى حالهم ، ولكن بعد هضم جانبهم وكسر شوكتهم ، فاستمرت المواعيد والقراءات والاستماعات والسماعات ، وذهب
__________________
(١) هو : أحمد بن محمد بن علي بن حسن ، زين الدين بن الصاحب محيي الدين : جاور بالمدينة سنة ٧٠١ ه ، وكان فقيها ديّنا رئيسا وافر الحرمة ، أزال كثيرا من البدع بالحرمين ، وتوفي بمصر سنة ٧٠٤ ه. ترجمته في «التحفة اللطيفة» (٢ / ١٤١) ، «الدرر الكامنة» (١ / ٢٨٣).