واستدعى مرة أخرى إلى مجلس الحكم بحلب ، فأجاب إلى ذلك.
قال ابن الأثير : ومن عدله أنه لم يكن يعاقب العقوبة التي يعاقب بها الملوك في هذه الأعصار على الظن والتهمة ، وكتب إليه الشيخ عمر الملّا وكان رجلا صالحا كبير الشأن : (إنّ المفسدين وقطاع الطريق قد كثروا ، ويحتاج في هذا الأمر إلى نوع سياسة من قتل ، وصلب ، وضرب ، وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يشهد له).
فكتب نور الدين على ظهر الكتاب : (إن الله تعالى قد خلق الخلق وهو أعلم بمصلحتهم ، وشرع لهم شريعة ومصلحتهم تحصل فيما شرّعه على وجه الكمال ، فلو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعه ، فما لنا حاجة إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى).
قال : فجمع عمر الملّا أهل الموصل وأقرأهم الكتاب ، وقال : انظروا كتاب الزاهد إلى الملك العادل ، وكتاب الملك إلى الزاهد. وقد صنف الناس في سيرة الملك العادل مصنفات عديدة ، فلنقتصر على ما ذكرناه.
وذكر شمس الدين ابن خلكان أن الحصون التي افتتحها من الإفرنج تنيف على خمسين حصنا ، مثل : بهشنا ، وبانياس ، ومرعش ، وحارم ، وغير ذلك ، وكان قد ملك مصر والشام وأعمالها وحلب وأعمالها ، والحجاز واليمن ، وكان يخطب له مع الخليفة على سائر منابر تلك البلاد ، وكان مولده رحمهالله في سنة إحدى عشرة وخمسمائة ، ووفاته في سنة تسع وستين وخمسمائة.
وأما الملك الناصر صلاح الدين فسيرته مثل سيرته ، لأنه انتشى بين يديه فتخلق بأخلاقه ، وتأدب بآدابه ، وكان نور الدين أكثر اجتهادا في العبادة منه ، وأكثر ورعا وتقشفا ، وكان صلاح الدين أحسن منه أخلاقا وأكثر حلما وصبرا على ما ذكر ، وقيل : إنه كان أكرم منه وأجسر منه على الدخول في المهمات الكبار ، وكان محببا إلى الرعايا أكثر من الملك العادل ، وكان في الجهاد أعلى درجة منه ، ولو لم يكن له إلا فتح القدس لكفاه ، وكان فتح القدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، وكان استيلاء الفرنج عليه في سنة