جاء أحد وشكى إليه من ضرر أو مرض ، قال له : قل : يا أول الأولين ، ويا آخر الأخرين ، ويا ذا القوة المتين ، ويا راحم المساكين ، ويا أرحم الراحمين سخر لي كذا ، أو اصرف عني كذا.
فإن جاءه يشكو من فاقة وقلة ، قال له : قل : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ٢].
ومما جرى من أحواله ، أن المدينة حوصرت أياما ، واشتد حال الناس من التضييق عليهم والخوف من عدوّهم ، ومع ذلك لا يدري ما الناس فيه ، حتى دخلت المدينة سحرا ، فهرب الناس فاختفوا في بيوتهم ، فلقيه شخص من الهاربين من أرباب الدولة والشيخ قد توضأ وخرج إلى المسجد فقال له : يا سيّدي أين تريد؟
قال : المسجد.
قال : المدينة دخلت وأبواب المسجد غلقت ، لا يدخله أحد.
قال : أي شيء تقول! فأعاد عليه.
قال : ومن هم هؤلاء المساكين الذين أخافوا المدينة وأهلها ، ويريدون أن يمنعونا من صلاة الصبح في جماعة؟
ثم مضى إلى المسجد فعلم بمكانه ففتح له ، ودخل وصلى ما كأنّ شيئا جرى ، فكان ذلك الشخص يحكي هذه الحكاية ويعجب الناس بها.
ولقد أخبرني بعد وفاة والدي وكان يقرأ على والدي العربية ، ويقطع الكتاب من أوله إلى آخره ، ثم يعيده مرة أخرى لطلب المؤانسة معنا ، والمحبة في والدي فبشرني بأنني أكون في مقامه ، وأتولى ثلاث ولايات في ذلك العام فكان كذلك ، جاءني موسم بالتدريس في المدرسة الشهابية ، وجاءني تدريس درس القاضي فخر الدين ناظر الجيش ، وجاءني تدريس من المغرب ، أقامني فيه شعيب ابن أبي مدين (١) ، وذلك كله في عام ثلاث
__________________
(١) هو : شعيب بن محمد بن جعفر بن شعيب ، رضي الدين أبو مدين التونسي : ولد في شعبان سنة سبع وعشرين وسبعمائة ، كان علامة في الفقه والنحو والفرائض ، قال العسقلاني في «الدرر» :«قرأت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي ، أنه كان أحد أذكياء العالم» ، توفي سنة سبعين وسبعمائة. ترجمته في : «الدرر الكامنة» ٢ / ١٩٢ (١٩٣٩) ، «شذرات الذهب» ٨ / ٣٧٤.