فيه تم تأليف هذا الكتاب
وفي هذا المورد الوخيم قدّر الله لي أن أؤلف هذا الكتاب ، لا في مروج إيطاليا النضيرة ، ولا في رياض الشام الأنيقة ، فأخال أن بين كل كلمتين منه دخانا متصاعدا ، وظلاما متكاثفا. وكنت كلما خرجت من حجرتي إلى هذا الموضع أوجس أن يصيبني سوء ، إمّا من تزاحم الناس أو البهائم ، أو من رداءة الطعام الذي يؤكل في مطاعمها ، فإذا عدت إلى منزلي أجد نفسي كأني نجوت من خطر غرق أو نار.
مكان كالحبس
ومن يخرج من هذا الحبس إلى جهة ريجنت ستريت ، كان كمن خرج من لندرة إلى باريس ، لأنه يرى هناك بعض الناس يمشي على مهل ، فيستشعر أن من الخلق من يخرج للتفرج والتنعم ، وبعضهم يدخن بالتبغ وهو ماش ، وبعضهم يتكلم وهو ضاحك أو مبتسم ، وقد يسمع بعض آلات الطرب فيأنس بأن هناك ما ينفس عن القلب ويؤذن بالسرور ، وأن من أوقات العمر ما يخصص للراحة واللذة ، بخلاف شوارع الستي ، فإن الله تعالى لم يخلقها إلا للسّعي والشغل ، الشغل ليس إلا الشغل ، العمل ، العمل. إن دين القوم العمل ، فهم لا يستريحون منه إلا إذا استراح هو منهم ، وناهيك أن فيه دارا واحدة تشتمل على خمسمائة محترف ، وعدة سماسرته تبلغ نحو ألف.
أرفع الأمكنة وأشرفها عندهم
ومع أن موقع هذا الخط سافل بالنسبة إلى سائر أخطاط المدينة ، وطرقه ضيقه وبيوته حقيرة ، فإن إجلاله عند الإنكليز جعله أرفع وأشرف من غيره ، حتى إنهم إذا شخصوا منه إلى محل أعلى منه يقولون : إنّا نهبط إلى موضع كذا. وليس في هذا الخط كلّه ملهى ولا نزهة ، ولا شيء آخر يبسط النفس ، فلن ترى فيه إلا وجوها