وقرأنا وأفضنا في الترحم ودعونا.
وكان الانصراف بعد أن ألممنا في تلك المحلّة بمسجد إمامهم (٥١٥) المهدي ودار سكناه ، وأثر مدرسته وسجنه ، كل ذلك من الخمول واللطو واستهجان الآلة على حال شبيهة بمباني الدّبر (٥١٦) ، وقرى النمل ، وأعشاش الخشاش (٥١٧) من الطير. فعجبنا من مفتاح تلك الدّوبرة المهتضمة ، كيف تملك من القصور العظيمة ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ؛ ولمنبر ذلك المسجد كيف أخذ على كونه قمئ الجلسة ، مصاحبا لبعض القشر ، بريا من الصنعة بأزمّة المنابر المتخذة من الألوّة (٥١٨) والصندل المقاصري في لونيه ، والأبنوس الحبشي ، وأنياب الفيول ، وأرعاها بعصياه ، واستاقها بين يدي طاعته كالذّود الشائل والسائمة الواردة ما بين قرطبة واشبيليّة وغرناطة وإفريقيّة (٥١٩) والمغرب ، سنّة الله في إدالة الدول ، وتعقيب النحل ، ألم تر [إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده].
__________________
(٥١٥) مهدي الموحدين أبو عبد الله محمد بن تومرت ، مؤسس دولة الموحدين بالمغرب عام ٥١٤ ه.
قامت هذه الدولة على أكتاف قبائل المصامدة ، نخص بالذكر منها قبيلة هنتاته. وتوفي المهدي عام ٥٢٢ ه (١١٢٨ م). أما دولة الموحدين فقد انتهت عام ٦٦٨ ه بعد أن امتد سلطانها إلى الأندلس من سنة ٥٤٠ إلى ٦٠٩ ه تقريبا.
وكانت دعوة المهدي تقوم على أساس نفي التجسيم الذي آل إليه أهل المغرب الذين تركوا التأويل في التشابه من النصوص الشرعية وأخذوا بظواهر الأمور. وقد سمى دعوته دعوة أهل التوحيد ، وأتباعه بالموحدين. واستمرت تعاليم المهدي منتشرة بين الناس حتى أواخر العصور الإسلامية بالأندلس. فيقول صاحب الحلل الموشية (ص ٨٩ ـ ٩٠ نشر علوش)(Allouche إن ابن تومرت ألف كتابا سمّاه بالأمانة وآخر سماه بالقواعد ـ بهما تعاليمه الدينية وما يجب على المسلم وما يستحيل عليه وما يجوز له ـ دوّنها بالعربي والبربري وهما موجودان بأيدي الناس إلى هذا العهد) (أي القرن الثامن الهجري). راجع ترجمة المهدي في (عبد الواحد المراكشي : المعجب ص ١١٥ ـ ١٢٥ ؛ ابن خلدون : العبر ج ٦ ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ؛ التعريف بابن خلدون ص ٢٣٤ حاشية ١ ؛ ابن القاضي : جذوة الاقتباس ص ٩٧) انظر كذلك (Pierre de Cenival : Les emirs des Hintata Rois de Marrakech ـ (Hesperis t. XXIV, ٧٣٩١).
(٥١٦) الدبر : النحل
(٥١٧) الخشاش أي الضعاف
(٥١٨) الألوة : شجر العود ، يتبخر به
(٥١٩) المقصود بإفريقية في المراجع العربية ، مملكة تونس أو المغرب الأدنى.