كان قصر العباسية ، آخر مكان مسكون تراه بعد مغادرة القاهرة ، والعباسية قصر فخم ، رهيب ، بناه الخديوي عباس باشا (١) على حدود الصحراء ليكون سكنا له. إن هذا القصر بالنسبة إلى عباس باشا هو كجزيرة كابري (٢) Capree بالنسبة إلى تيبيريوس (٣) Tibere ، وعباس ليس إلا نسخة مصغرة عن تيبيريوس وهو نصف نمر ونصف ضبع ، لا يحد من وحشيته إلا الخوف.
__________________
(١) عباس باشا بن طوسون باشا بن محمد علي باشا (١٨٤٩ ـ ١٨٥٤) م تولى حكم مصر في عام ١٨٤٨ بعد وفاة والده طوسون في ١٠ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٨٤٨ م. وتوفي في يوليو (تموز) ١٨٥٤ م ، وقد كثرت الروايات عن وفاته ، وقد نال نصيبا وافرا من انتقادات الرحالة ، ويبدو أنه كان يكره القناصل الأجانب ويؤثر عنه قوله : " إذا كان يتحتم علي الخضوع لأحد ما ، فإنني أفضل الخضوع للخليفة ، لا للمسيحيين الذين أكرههم". وقد حاول إخراج مصر من دائرة النفوذ الفرنسي ، فصبّ عليه الرحالة والسياسيون الفرنسيون جام غضبهم. اقتنى عباس باشا الحيوانات ، وخصوصا الجمال القوية التي حصل عليها من الحجاز ، ولم يكن يأذن لأحد بزيارة حظائره لأنه كان يخشى شر العين الحسود على الجياد ولذلك أصدر أوامره بإلقاء القبض على كل من يقترب من الاصطبلات والحظائر ، وكذلك من أبراج الحمام ، لأنها كانت تحوي أجمل وأندر الأنواع. لقد أقام عباس في المناطق البعيدة النائية حيث الهواء النقي ، فبنى القصور في العباسية ، وعند جبل المقطم ، فكان محل إقامته أشبه بالقلعة ، يعسكر فيها مع موظفيه بعيدا عن دسائس القناصل. انظر بخصوص فترة عباس باشا كتاب : مصر في كتابات الرحالة الفرنسيين في القرن التاسع عشر ، د. إلهام محمد علي الذهني ، سلسلة مصر النهضة رقم (٥١) ، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ١٩٩٥ ، ص ١٥٧ ـ ١٦٢. وسنشير إليه من الآن فصاعدا ب" مصر في كتابات ..."
(٢) capree جزيرة إيطالية كانت مستوطنة يونانية ثم أصبحت أيام الرومان متنزّها ، وسكنها الإمبراطور أغسطس ، أما الإمبراطور تيبيريوس فبنى هناك عدة مبان أو مساكن.
(٣) Tibre أوTiberius (٤٢ ق. م ـ ٣٧ م) : إمبراطور روماني حكم بين (١٤ ـ ٣٧ م) سلك في الحكم سبيل التعقل في البداية ، ثم أطلق العنان لنزواته وشهواته.