وكان الباشا ذا لطف عميم في بذل كل ما في وسعه لتسهيل سفرتنا ، وتزويدنا بالفرامين والأوامر والرسائل إلى ذوي الشأن ضمن منطقته ، وبتوصيات حارة إلى باشا كردستان ورؤسائها.
اخترت قرية (الدوخلة) الخربة الواقعة على بعد واحد وعشرين ميلا شمالي بغداد ، كمثابة أو محل ملاقاة عام للحرم والأمتعة والحرس وغيرهم من الجماعة الذين لم يرافقوني شخصيّا إليها.
رحلت من بغداد في ساعة متأخرة من اليوم ، بالنظر إلى زيارة الكثيرين لي من المودعين راجين لي سفرة ميمونة. ولم يكن لهذا التأخير من أثر يذكر ، إذ كانت المرحلة الأولى لا تتجاوز الخمسة أميال في مداها ، وهي بستان صديقي القديم المضياف الحاج عبد الله بك ، الذي رجاني أن أجعل من داره هذه المراح الأول.
امتطيت صهوة جوادي بعد الخامسة بعد الظهر توّا ووصلت البستان بين السادسة والسابعة ، فاستقبلني البك ببالغ الحفاوة ووجدت أنه قد أعد لي وليمة تركية فخمة جدّا ، كما واستقبلت صالحة خاتون السيدة ريج (١) صديقتها استقبالا مضاهيا ، وهي إحدى أرامل سليمان باشا الذي حكم بغداد مدة تنوف على العشرين عاما ، وتوفي في عام ١٨٠٤. ومع أن سليمان باشا كان مملوكا كرجيّا لسلفه ، فقد كان من ذوي الكفاءات المحمودة ، فبقوته وسرعة قراره وحكمته أخضع العشائر العديدة ضمن منطقته ، وخشيه الآخرون خارجها ، فتحسنت الزراعة والتجارة ، وازدهرت (بغداد) ازدهارا عظيما إبان عهده الأبوي الرشيد. وقد خلف ثلاثة أولاد كانت لهم مكانة ودية في قلوب أهل المدينة إكراما لوالدهم ، كما كان لهم مكانة عز لدى من خلف والدهم في الباشوية. وعاش الأخوان الآخران كل مع أمه عيشة مترفة ، بقدر ما يسمح رغد العيش
__________________
(١) راجع في الملحق «شذرات من مذكرات السيدة ريج».