لمقابلته ووعدني بأن يأتيني به غدا وأطّلع منه في الوقت ذاته على القضية الغريبة الرومانتيكية التي تتعلق بأصل العائلة البابانية. وعلينا أن نعلم قبل ذلك أن (داره شمانه) قرية صغيرة في بيشدر كانت مركز البابانيين قديما ، وسكان القرية الحاليون كلهم من ذلك البيت ، أو بالأحرى أن البيت الباباني منهم ، وهم يفاخرون الآخرين بذلك مفاخرة بينة وقد يأتي البعض منهم بين الفينة والأخرى إلى السليمانية ، فيكرم عبد الرحمن باشا أبناء عمومته الجبليين هؤلاء وعند رجوعهم منها يحمّلهم الهدايا التي تتناسب واحتياجاتهم وحالاتهم. وهم يرفعون معه الكلفة بل يتقدمونه في حضرته بوصفهم الفرع الأقدم في الأسرة. وقد ترى قرويّا انحدر من قريته ومضى إلى السليمانية يسوق أمامه حمارا فيذهب إلى الباشا ويجلس إلى جانبه قبل أن يدعوه الباشا إلى الجلوس ويسحب غليونا قصيرا قذرا فيملأه ثم يقدح لنفسه نارا يولع غليونه بها ويدخن منه قليلا ثم يقول : «والآن يا ابن العم ، قل لي ، كيف حالك؟». لنرجع إلى القصة :
كان هناك أخوان في (داره شمانه) هما الفقيه أحمد وخضر وقد قاسيا الآلام الكثيرة من البلباسيين ، الذين كانوا أقوى الناس في بيشدر. وكان الفقيه أحمد ، شجاعا أنوفا ، فهجر القرية غاضبا وقد أقسم ألا يرجع إليها إلا إذا أصبح في مركز يستطيع به الانتقام لنفسه. ذهب إلى استانبول وانخرط في خدمة الحكومة. ومن المصادفات العجيبة أن السلطان كان في حرب مع الإفرنج ـ وقال الراوي ، إن هؤلاء الإفرنج هم الإنكليز ـ وكانت الحروب في تلك الأزمنة تشن على هيئة مبارزات فردية ، فنزل الميدان بطل من أبطال الإفرنج وراح ينازل أشجع فرسان الأتراك مدة أربعة أو خمسة أيام وقد تغلب عليهم فرادى وقتلهم. فتطوع الفقيه أحمد لمنازلة هذا العدو المغوار فأرسل عليه السلطان يسأله عن موطنه. وبعد أن اقتنع بمظاهر الرجل سمح له بأن يقدم على المجازفة وقد أعطاه جوادا وزوده بما يحتاج من السلاح. فنزل إلى الميدان وتغلب على الفارس