أنواع المحن والعوز دون أن ينبسوا ببنت شفة ، وقد ترى في بغداد سادة في أسمال بالية يملك كل منهم في بلاده جوادا مرختا وخادما ولكن المعروف عنهم أنهم غالبا ما يتكسبون المال من الحمالة والسقاية ليقدموه إلى أسيادهم ليعينوهم على العيش. فعند موت شقيق عبد الرحمن باشا في بغداد كان أحد الكرد من أتباعه واقفا في شرفة الدار أو على سطحه ، وفي الدقيقة التي أسلم فيها سيده النفس الأخير صاح قائلا «ماذا؟ أمات البك؟ إذن يجب أن لا أعيش لحظة واحدة من بعده» ثم قذف بنفسه من أعلى الدار ومات مهشّما. وكثيرا ما رويت لي هذه القصة في بغداد ، ومع هذا فالنفي في بغداد أمر يخشاه الكرد كل الخشية ، إلى درجة أن تعلقهم الشديد برؤسائهم ذاته لا يدرء عنهم أهوال ذلك النفي دوما ؛ فإنهم يتحملون الفقر والعوز دون تأفف إلا أن قفار البلاد العربية المحرقة فظيعة حقّا لا يطيقون العيش فيها على ما يدعون. وعندما بلغ بسليمان باشا الكردي الغباء حد السماح لنفسه أن تجذبه بغداد إليها مرة أخرى بعد أن جرب مرارا غش باشا بغداد وخيانته له تقدم إليه أحد البكزادات أو أحد السادة البارزين المتقدمين فخاطبه قائلا : إنهم على أهبة الاستعداد للقيام بأي أمر من أجله إلّا تحمل أهوال النفي في بغداد مدة طويلة ، وإنهم يرغبون في أن يسمح لهم بالنزوح مع أمراء العائلة الآخرين سعيا وراء نصيبهم من الرزق في كردستان. وعندما يتولى الرؤساء الحكم يشرعون بتوزيع أخصب الأراضي على أولئك الأتباع المخلصين ، علاوة على إهدائهم لهم الخيل والسلاح باستمرار. لقد أخبرني خالد باشا بأنه عندما أقصي من حكم كوى سنجاق جاءه رجاله بمعدات خيلهم وسروجها وشفوفها الفضية فألقوها بين يديه قائلين له : إنّه سينزح إلى بغداد منفيّا ، وإنهم سيلتحقون به هناك حيث لا حاجة بهم إلى مثل تلك الكماليات ، واستعطفوه ليجعل من الفضة مالا يستعين به.
لقد تأكد لي من خير المصادر الموثوق بها ما كنت أتوقعه منذ زمن