كذلك عرض ابن رشيق القيرواني للمبالغة ، فذكر أنها ضروب كثيرة ، وأن الناس فيها مختلفون : منهم من يؤثرها ويقول بتفضيلها ، ويراها الغاية القصوى في الجودة ، وذلك مشهور من مذهب نابغة بني ذبيان ، وهو القائل : أشعر الناس من استجيد كذبه وضحك من رديئه.
ومنهم من يعيبها وينكرها ويراها عيبا وهجنة في الكلام ، وقد قال بعض حذاق نقد الشعر : إن المبالغة ربما أحالت المعنى ، ولبّسته على السامع ، فليست لذلك من أحسن الكلام ولا أفخره ، لأنها لا تقع موقع القبول كما يقع الاقتصاد وما قاربه ، لأنه ينبغي أن يكون من أهم أغراض الشاعر والمتكلم أيضا الإبانة والإفصاح ، وتقريب المعنى على السامع.
فإن العرب إنما فضلت بالبيان والفصاحة ، وحلا منطقها في الصدور ، وقبلته النفوس لأساليب حسنة ، وإشارات لطيفة تكسبه بيانا ، وتصوره في القلوب تصويرا. ولو كان الشعر هو المبالغة لكان المحدثون أشعر من القدماء ، وقد رأيناهم احتالوا للكلام حتى قرّبوه من فهم السامع بالاستعارات والمجازات التي استعملوها وبالتشكيك في الشبهين ، كما قال ذو الرمة :
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل |
|
وبين النقا آأنت أم أمّ سالم؟ |
فلو قال : أنت أم سالم ، على نفي الشك بل لو قال : أنت أحسن من الظبية ، لما حل من القلوب محل الشك ، وكما قال جرير :
فإنك لو رأيت عبيد تيم |
|
وتيما قلت : أيهم العبيد؟ |
فلو قال : «عبيدهم» أو «خير منهم» لما ظنّ به الصدق ، فاحتال في تقريب المشابهة ، لأن في قربها لطافة تقع في القلوب ، وتدعو إلى التصديق.
والمبالغة في صناعة الشعر كالاستراحة من الشاعر ، إذا أعياه إيراد