حفظ القرآن ، ولقنه أبوه من الفقه والحديث شيئاً كثيراً ، فمات فأتيته لاعزيه ، فقال : كنت أشتهي موته ، فقلت له : يا أبا إسحاق ، أنت عالم الدنيا ، تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ، وحفظ القرآن ، ولقنته الحديث والفقه؟! قال : نعم ، رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت ، وكأن صبياناً بأيديهم القلال (١) فيها ماء ، يستقبلون الناس يسقونهم ، وكان اليوم يوم يوماً حاراً شديد الحر. فقلت لأحدهم : إسقني من هذا الماء. فنظر إلي ، وقال : لست أنت أبي ، قلت : فأي شيء أنتم؟ قالوا : نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا ، وخلفنا آباءنا ، فنستقبلهم ونسقيهم (٢) ، فلهذا تمنيت موته.
وروى الغزالي في ( الإحياء ) : إن بعض الصالحين كان يعرض عليه التزويج برهة من دهره فيأبى ، قال : فانتبه من نومه ذات يوم ، وقال : زوجوني ، فزوجوه ، فسئل عن ذلك ، فقال : لعل ( الله أن يرزقني ) (٣) ولداً ويقبضه ، فيكون لي مقدمة في الآخرة ، ثم قال : رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت ، وكأني في جملة الخلائق في الموقف ، وبي من العطش ما كاد أن يقطع قلبي ، وكذا الخلائق من شدة العطش والكرب ، فبينما نحن كذلك وإذا ولدان يتخللون الجمع ، عليهم قناديل من نور ، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب ، يسقون الواحد بعد الواحد ، يتخللون الجمع ويتجاوزون أكثر الناس ، فمددت يدي إلى أحدهم ، فقلت : اسقني ، فقد أجهدني العطش ، فقال : مالك فينا ولد ، إنما نسقي آباءنا ، فقلت : ومن أنتم : ومن أنتم؟ قالوا : نحن من مات من أطفال المسلمين (٤).
وحكى الشيخ أبو عبد الله بن النعمان في كتاب ( مصباح الظلام ) عن بعض الثقات : أن رجلاً أوصى بعض أصحابه ـ ممن أراد أن يحج ـ أن يقرأ سلامه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ويدفن رقعة مختومة ـ أعطاها له ـ عند رأسه الشريف ، ففعل ذلك ، فلما رجع من حجه أكرمه الرجل وقال له : جزاك الله خيراً ، لقد بلغت الرسالة ، فتعجب المبلغ من ذلك وقال : من أين علمت تبليغها قبل أن اُحدثك ، فأنشأ يحدثه ، قال : كان لي أخ مات ، وترك ابناً صغيراً ، فربيته وأحسنت تربيته ، ثم مات
__________________
رجال الحديث ١٦ : ٧٤ ، خلاصة العلامة ١ : ١٦١ / ١٥٤ ».
١ ـ القلال جمع القلة : وهي الحب العظيم أو الجرة العظيمة « القاموس المحيط ٤ : ٤٠ ».
٢ ـ في نسخة « ش » : فنسقيهم الماء.
٣ ـ في نسخة « ش » : الله تعالى يرزقني.
٤ ـ إحياء علوم الدين ٢ : ٢٧.