ولم يكف ذلك أحد هؤلاء المقاولين ـ وهو يمون هذه السفينة بالفحم وله بذمة الباب العالي مبالغ مستحقة عن ذلك ـ وكان أن قطع الفحم عنا ذات يوم دون إنذار سابق ، وأبى أن يموننا بأي شيء منه إن لم تسلم ديونه السابقة وأن يتقاضى ثمن ما نحتاج إليه من الفحم سلفا كما قال. ولقد اضطرت «الموصل» بحسب هذا العمل أن تؤخر سفرها ويطول مدة وقوفها. ولكن الغريب هو أنني على رغم ذلك تلقيت أمرا بالحركة فورا. ففتّ ذلك في ساعدي واحترت فيما أعمله للخروج من هذا المأزق الحرج ولم أر بدّا من الذهاب إلى رئيس السفينة وتذكيره بأن المخزن ليس فيه من الفحم ما يمكن الحركة به والوصول بسلام إلى بغداد!
وما كدت أقول هذا للرئيس المحترم حتى رأيته يركب رأسه ويرد علي بحدّة قائلا : إننا لسنا في حاجة إلى خدماتك بعد هذا الكلام الغريب .. إذا كان يتعذّر عليك السفر بغير فحم فأرى من الأجدر أن تترك العمل وتذهب في سبيلك!
سمّرت فيه نظراتي هنيهة أتفحص هذا المخلوق العجيب ثم قلت له دون اكتراث : ليس في اللغة الفرنسية لفظة «يتعذر» ـ يستحيل ـ ثم وضعت يدي في جيبي وذهبت لحجرة قيادة السفينة.
تحركت سفينة «الموصل» وتوسطت نهر دجلة وكانت تسير بخيلاء وغرور. وبعد يومين خلا المخزن من الفحم تماما. وتعذّر عليّ عندئذ تحريك ماكنة السفينة .. فكرت لحظة ولكن سرعان ما خطرت لي خاطرة هتفت لها من أعماقي فرحا وسرورا. تذكرت أن سفينتي تحمل كميات كبيرة من السمسم فأشرت على الملاحين أن يحرقوا السمسم بدل الفحم. ونفذ هؤلاء أوامري وبعد دقائق عادت جلجلة الماكنة إلى الأسماع وكان أن تحركت تسير الهوينى كالسابق. وبعد ثمانية أيام دخلت بغداد دخول الظافرين! وكانت قيمة كميات السمسم التي استعملناها بدل الفحم تقدر بأكثر من ثلاثين ألف فرنك .. ولكم كنت فخورا ساعة وصولنا إلى بغداد ، لأنني كنت قد أطعت أوامر الامبراطورية التركية إطاعة تامة ونفذتها بحذافيرها ورفعت اسم فرنسا العظيمة في مياه دجلة!