وقلبت المكان إلى ظلام ، هبطت درجة الحرارة فجأة ، وبصورة سريعة حتى أخذنا نشعر بالبرد القارس بعد أن كنا نشكو من القيظ!
جلست على الشاطئ أتقبض من البرد وأحاول أن أرى أضواء السفينة ولكن كان ذلك دون جدوى! لقد كانت عيني تعشى ولا تستطيع أن تخترق ظلمة الليل الذي هبط علينا بغتة ، كما كانت أذني قد أصابها الصمم من جرّاء التعب الذي لقيناه خلال جولتنا اليوم. لذا كنت أتمنى أن أصل إلى السفينة بأسرع ما يمكن لآخذ نصيبا من الراحة ولكن التعب كان يشدّني إلى الأرض ولا أرى أثرا لسفينتنا .. وهنا رأيت الكابتن دمينيسي يدور حولنا بضيق ينظر تارة حوالينا بخوف وحذر وتارة يشعل نارا يقربها منا ليخفف من وطأة برودة الجو ولينير أمامنا الطريق لمشاهدة السفينة التي لا ندري ما الذي حصل لها. وأخيرا رأيته يقول وهو يتلفت يمنة ويسرة بما يشبه الهمس :
«أترون هذه النيران المشتعلة في أطرافنا؟ هذه نيران أبناء قبائل هذه المناطق المتوحشة وإذا علموا بمكاننا وبقلّة عددنا فإنه من المؤكد لن يتأخروا عن الإغارة علينا وسلبنا من غير أدنى تردد!!» ثمّ أضاف قائلا : «إنه لم يكد يمضي شهر ـ بعد ـ على سلبهم القنصل البريطاني هنا في هذا المكان بعينه ـ سلبوه بحيث لم يبقوا له إلّا ما كان معه من أوراق وصحف الجرائد. ولقد استطاع ـ من حسن الحظ ـ أن يصنع لنفسه ثوبا رقيقا من صفحات جريدة التايمس ـ بعد أن تركه السراق واللصوص المتوحشون ـ وأن يدخل بغداد بهذا الشكل المضحك المزري!! إلّا أنني لا أعتقد أنهم إذا حملوا علينا ونهبونا أن يكتفوا بذلك ويتركونا لسبيلنا .. لذلك أرى من الحيطة أن نطفئ نيراننا وأن نخفي رمادها في هذه الأوحال كيلا نبقي أثرا يدل علينا .. ينبغي أن نفر سريعا سريعا وأن نصل بأسرع ما يمكن إلى السفينة!! ما دام الأفق بعد لم يظلم ظلاما دامسا فإن على يميننا أرضا صعبة العبور لكثرة ما فيها من أشواك ونباتات برية وعلى يسارنا شاطئ النهر مهدّما أو ان الماء قد غطاه ولا يمكن في هذه الحالة الوصول إلى الضفة ومن ثم إلى السفينة إذا ما هبط الظلام تماما اللهم إلّا عند ما يرتفع القمر إلى كبد السماء فتنير أشعته لنا شعاب الطريق الوعر .. وحتى