وتبدو المدينة في النهار وخصوصا وقت الظهيرة وكأنها خالية من السكان ولكن وقت الغروب تدب فيها الحركة. والنساء يذهبن لزيارة بعضهن بعضا من سطوح منازلهن ويقضين الليل بالقيل والقال وتدخين النرجيلة وباحتساء كؤوس الشراب المثلج. ولوجود حشرات مؤذية تكثر على الضوء يضطرون إلى إطفاء المصابيح والجلوس في ظلام دامس. وما يكاد نور الفجر يظهر في السماء حتى يدخل الجميع إلى السرداب عودا على بدء (١) ويمضون سحابة النهار وهم في حالة تراخ وكسل حتى الأشخاص القويو البنية منهم لا ينجون من مثل هذه الحالات!
وعند ما يحل فصل الشتاء ينتقل الأهلون إلى الطبقة الأولى من منازلهم ومع أن مدافئهم مملوءة بالنار على الدوام فهم يرتجفون بردا. وبقدر ما كان يلقون من قر القيظ في الصيف فهم يلقون الأمرين من قر الشتاء!
والنساء أكثر من يلقى الأذى والنصب لما يؤمن الأهلون بعادات وتقاليد غريبة إذ يحظر عليهن أن يخرجن إلى الأزقة وإن ارتدين ملابس فضفاضة تغطي أجسامهن من قمة الرأس إلى أخمص القدم. والأزقة هذه ـ أبعدك الله عنها ـ ضيقة معتمة قلّما يصل إليها الهواء وهي في وقت الشتاء تنقلب إلى برك ومستنقعات مملوءة بماء الأمطار المتعفن وأوساخ هذه المياه تبقى في آبار غير عميقة هناك بعد أن تنزاح المياه وتتبخر بفعل أشعة الشمس المحرقة. وفي حالة المطر الغزير تمتلئ هذه الآبار وتفيض إلى المجاري المتصلة بها وتملأ أرض الأزقة بالماء والقاذورات بحيث لا يستطيع الرجال أن يسيروا خلالها إلّا بمعونة ضوء فوانيس يحملونها بأيديهم. على هذا الأساس فلا عجب إذا ظهر وباء الطاعون في مثل هذه المدينة وأتى على أهليها وجعلهم حصيدا وأثرا بعد عين! إلّا أن الطبيعة ـ في فصل الخريف وحده ـ تسالم أهالي بغداد المساكين وتهدأ في حربها لهم بعد أن تذيقهم العذاب والألم في ثلاثة أرباع السنة. ففي هذا
__________________
(١) ناقضت المدام نفسها بهذا القول لأنها قالت آنفا «ويقضي أهالي بغداد عادة وقت الظهيرة في السراديب» وهو الصحيح. «المترجم»