والخلاصة أن هذه الليلة مضت بعذاب وألم على خلاف ما كنت أقدّر وأنتظر ولو لا خجلي من الخدم لكنت أذهب في ذلك الليل إلى صحن الدار وأفتش عن لحافي القذر بين أمتعة السفر وأنام على البلاط حتى لا أكون قد غيّرت ما اعتادته أضلاعي من خشونة الأرض وقساوتها وقذارتها!!
إنني أطمأن إلى رفيقي القديم هذا وأودّه ـ وأعني لحافي الخاص ـ لدرجة إذا وصلت إلى باريس فإنني أفضله على جميع أثاث منزلنا ـ على قذارته واهترائه ـ!
وفذلكة القول أنه ما كادت تعلو أشعة الشمس الأولى إلى كبد السماء حتى تركت السرير وخرجت إلى صحن الدار ، وبمجرد أن رآني موظفو القنصلية ذهبوا إلى غرفهم الخاصة وارتدوا ملابسهم الرسمية لكي يكونوا على استعداد لتنفيذ أو امري وإرشادي إلى ما أريد. إنني كنت أرغب في أن أرى أزقة ودروب هذه المدينة بأسرع ما يمكن وأن أبحث عن آثار الست زبيدة ، أما المؤسف أن هذه الآثار بنتيجة الحروب التي وقعت بين الفرس والعثمانيين ومحاصرة بغداد قد درست وانمحت عن الوجود.
لا يتفق المؤرخون الغربيون والشرقيون على معنى اسم هذه المدينة. فالمؤرخون الأولون يعتقدون أنه يعني : «هدية الله أو انعام باك» وباك هذا اسم صنم قديم كان يقدّسه الكلدانيون. أمّا في اعتقاد العرب فإنه محرّف من كلمة «باغ» التي هي البستان في الفارسية و «داد» (١) الذي هو اسم أحد الزاهدين النسّاك والعلماء وكان يملك بستانا في هذا المحل بعينه لذلك سميت هذه المنطقة باسم «باغ داد» أي بستان داد ويقال : باغ داد أي بستان العدالة نسبة اليه وسميت هذه المدينة به أيضا عند تأسيسها.
وعلى أي حال كان اكتشاف بناء آجرّيّ في هذا المكان ونقش اسم بختنصر على آجرة من آجره يثبت بحيث لا يقبل الشك والتردد أنه كانت في هذا الموضع مدينة قديمة على الضفة اليسرى (٢) من نهر دجلة. ولعل هذه
__________________
(١) ظهر في أيامنا اسم بغداد في أحافير تل محمد.
(٢) لعلّها أرادت «اليمنى» أي الجانب الذي فيه الكرخ. «المترجم»