بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة ، أعني أنه على بينة من ربه. وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة. وإفراد ضمائر (كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) مراعاة للفظ (من) الموصولة وذلك أحد استعمالين. والجمع في قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ) مراعاة لمعنى (من) الموصولة وذلك استعمال آخر. والتقدير : أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به.
ونظير هذه الآية قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) في سورة القتال [١٤].
والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيرا منهم ، وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي ، ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله بن سلام ممّن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البيّنة ، فأصحابها مؤمنون بها.
والمراد بالبيّنة حجة مجيء الرسول صلىاللهعليهوسلم المبشّر به في التوراة والإنجيل. فكون النصارى على بينة من ربهم قبل مجيء الإسلام ظاهر لأنهم لم يكذّبوا رسولا صادقا. وكون اليهود على بيّنة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولا مبشّرا به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى ـ عليهالسلام ـ ليسوا على بيّنة. فالمراد على بيّنة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله : فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٤] ، ويعينها اللاحق من قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن.
و (من) في قوله : (مِنْ رَبِّهِ) ابتدائية ابتداء مجازيا. ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [آل عمران : ٨١] وقوله : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) النبي (الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧]. وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البيّنة المذكورة هنا من الإنجيل ، ويقوي أن المراد ب (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) النصارى.
وفعل (يتلوه) مضارع التّلو وهو الاتّباع وليس من التلاوة ، أي يتبعه. والاتباع مستعار للتأييد والاقتداء فإن الشاهد بالحق يحضر وراء المشهود له. وضمير الغائب المنصوب في قوله : (يَتْلُوهُ) عائد إلى (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ).
والمراد ب (شاهِدٌ مِنْهُ) شاهد من ربه ، أي شاهد من الله وهو القرآن لأنه لإعجازه