وتنزيهه إلى غيره وهو الشّرك الباطل ، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان عبدان لله ، ولا يعقل أن يجعل المخلوق خالقا ، مع أنه يأكل ويشرب ويتعب ويألم ، لذا قال تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ...) [المائدة ٥ / ٧٥] ، وقال تعالى عن المسيح : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ، وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزّخرف ٤٣ / ٥٩] ، وقوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) [النساء ٤ / ١٧٢].
ثم أوضح تعالى وجه مضاهاة من كفروا قبلهم ، فقال : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ) أي اتّخذوا اليهود والنصارى رؤساء الدّين فيهم (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، يقومون بحقّ التّشريع ، فيحلّون الحرام ، ويحرّمون الحلال ، ويطيعونهم في ذلك ، تاركين حكم الله.
أما اليهود فقد أضافوا لأحكام التّوراة ما شرعه رؤساؤهم ، وأما النّصارى فقد غيّروا أحكام التّوراة وأوجدوا شرائع أخرى في العبادات والمعاملات.
ويوضح ذلك قصة إسلام عدي بن حاتم ، روى الإمام أحمد والتّرمذي وابن جرير الطّبري عن عدي بن حاتم رضياللهعنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فرّ إلى الشّام ، وكان قد تنصّر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم منّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على أخته ، وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها ، فرغّبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقدم عدي إلى المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيء ، وأبوه حاتم الطّائي المشهور بالكرم ، فتحدّث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وفي عنق عدي صليب من فضة ـ وهو يقرأ هذه الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ).
قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال : بلى ، إنّهم حرّموا عليهم الحلال ، وأحلّوا لهم الحرام ، فاتّبعوهم ، فذلك عبادتهم إيّاهم.