وتكرار الفعل : (قالُوا) والتصريح بذكر الكفرة ، وقوله : (لَمَّا جاءَهُمْ) من المبادهة بالكفر وأنه حين جاءهم لم يفكروا فيه ، بل بادروه بالإنكار : دليل على صدور الكفر عن إنكار عظيم له ، وغضب شديد منه ، وتعجيب بليغ منه ، كأنه قال : وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله ، ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المنير قبل أن يتذوقوه : ما هو إلا سحر واضح لمن يتأمله.
(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي ما أنزلنا على العرب كتبا سماوية يدرسون فيها ، وهو دليل على صحة الإشراك (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) يدعوهم إليه ، وينذرهم بالعذاب على تركه. وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم ، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول صلىاللهعليهوسلم وجه ، ولا شبهة يعتمدون عليها ، إذ لم يأتهم كتاب ، ولا نذير بهذا الذي فعلوه ، فمن أين كذبوك؟!
(وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال فأهلكهم الله ، كعاد وثمود ونحوهم ، والمعشار : هو العشر أي عشرة في المائة ، وقيل : هو عشر العشر ، أي واحد في المائة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب والعقوبة؟ أي هو واقع موقعه.
(أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه ، وأوصيكم بخصلة واحدة وهي (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) أي أن تقوموا في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين : اثنين اثنين ، أو واحدا واحدا ؛ لأن الاجتماع يشوش الفكر. (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) تنظروا في حقيقة أمر النبي صلىاللهعليهوسلم وما جاء به من الكتاب ، فتعلموا أنه (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أن محمدا صلىاللهعليهوسلم ليس بمجنون ولا ساحر ، فليس في أحواله ولا تصرفاته ما يدل على ذلك ، ومجيئه بالوحي دليل ظاهر على صدقه (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ما هو إلا منذر لكم قبل مجيء عذاب شديد في الآخرة إن عصيتموه ، وقد علمتم أنه أرجح الناس عقلا ، وما جربتم عليه كذبا مدة عمره فيكم.
(قُلْ : ما سَأَلْتُكُمْ) قل لهم : ما طلبت منكم على الإنذار والتبليغ (مِنْ أَجْرٍ) مال مقابل الرسالة (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ما ثوابي إلا على الله ، لا على غيره (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مطلع ، لا يغيب عنه شيء ، يعلم صدقي.
(قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) يتكلم بالحق ويلقيه إلى أنبيائه ، وهو القرآن والوحي (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يعلم ما غاب عن خلقه في السموات والأرض (جاءَ الْحَقُ) أي الإسلام والتوحيد ، والقرآن الذي فيه البراهين والحجج (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي لا أثر للكفر أو الشرك ، فهو لا حقيقة له بدءا وإعادة. (إِنْ ضَلَلْتُ) عن الحق وطريقه (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) أي إثم ضلالتي يكون على نفسي (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) من القرآن والحكمة والموعظة (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) مني ومنكم ، يعلم الهدى والضلالة.