تتطلب الشكر كما الحياة نعمه ، ثم نرفع رؤسنا ثانيا اشارة إلى الحياة والولادة الثانية والأخيرة التي نحاسب فيها فنجازى.
(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً).
بما أن البسط هو النشر بعد القبض ، وان الجعل المتعدي لمفعولين هو جعل الشيء شيئا آخر في كيفيته وصورته ، فجعل الأرض بساطا يوحي انها كانت منقبضة غير منبسطة ، ثم جعلها الله منشورة للعايشين عليها ، ولا سيما إنسانها : (جَعَلَ لَكُمُ) فلم تكن بساطا قبلئذ ، ولا صلبا ، إذ كانت محترقة مذابة ، ولا لها جو إذ كانت حارة محرقة ، دون أن يعيش فيها مواد الحياة من الماء واكسجين الهواء ، شربا وتنفسا وإنباتا.
إنها لم تكن لتسلك فيها سبل فجاج : الطرق الواسعة ، التي يهتدى بها إلى متطلبات الحياة : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٢١ : ٣١) فالسبل الفجاج في الصحارى وبين الجبال ، إنما هي من حصائل بسط الأرض ونشرها ، فقد ذلت الأرض بعد شماسها لنمشي في مناكبها ونأكل من رزقه : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (٦٧ : ١٥) ذلولا بعد شماس ، في ركوبها وسكنها وابتغاء الرزق فيها ، وبصيغة عامة : الحياة المريحة عليها ، في فجاجها السبل التي ما كانت مسبلة حين شماسها.
ثم البساط ـ وهو النمط الذي يمد على الاستواء فيجلس عليه ـ إنه يوحي برياحة التنقل في الأرض كما يتنقل الإنسان على بساطه.
فيا نبات الأرض ، المفضل على كل نباتها! المدلل إلى كل خيراتها وبركاتها ، المستنير بقمر السماء وشمسها ومطرها ، أنت كيف تسمح لنفسك أن تكفر بربك رب العالمين ولا تستطيع التحلل عن نعمه ابدا؟.
(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) رب انهم ـ على طول الدعوة وبعد هذا العناء الطويل والتنوير الوفير ،
(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ١١)