ففكر فقال : ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ...».
إن آخر ما وصل إليه الوليد في تفكيره وتقديره وقياسه القرآن على غيره : أنه سحر لا كسائر السحر ، إنما سحر يؤثر ، سحر لأنه يفرق بين الأحبة ويؤثر لأن الفراق الناتج عنه لا يزول كسائر السحر ، وإنما يؤثر ويبقى. (إِنَّهُ فَكَّرَ) في أمر القرآن ليعتبره من كلام الخلق (وَقَدَّرَ) بكافة المقادير التي يمكن أن يقدر ويقاس بها كلام ، فلم ير فيه شبها من شعر ولا خطب ، (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) قدّره وقاسه بسائر السحر فما قدر أن يقول : هو سحر ، لأن السحر لا يبقى ولا يؤثر ، فأثر السحر ـ أيّ سحر ـ دائر يزول بمثله أم بنفسه أم بمعجزة إلهية ، ولكن أثر القرآن باق ، لا يزداد على طول المكوث إلا ازدهارا ، والسحر لا يوافقه العقل والفطرة والذوق السليم ، ويمكن إبطاله بالبراهين العقلية ، والقرآن يأخذ بأزمة العقول ويجعل الإنسان مختارا بين الرد والقبول ، لا محتارا لا حول له ولا قوة ، فلا يمكن القول أنه سحر كسائر السحر. ثم «نظر» في الأمرين : أنه سحر؟ لا! أنه معجزة إلهية؟ لا يوافقها هواي ، فخلط بين الأمرين فقال (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) ففرّع على دعوى السحر (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) ولم يفرع على قوله (يُؤْثَرُ) شيئا ، لأنه يحمله على مصارحة التناقض إذا قال «معجزة» إذ من شأن البقاء والأثر في مثل هذا الكلام ألا يكون من كلام البشر ، فخلط حقا بباطل ، ثم استنتج من باطله باطلا وتغمض عن حقه (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) قطب حاجبيه عابسا ، يقبض ملامح وجهه باسرا ليستجمع فكره ، وعرف بعد ذلك كله أنه وحي ، ولكنه (أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) وعبر عن رأيه بعد هذا المخاض كله ، وهذا الحذق كله ، وقال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ).
فهناك تفكير وتقدير ونظر وعبس وبسر وإدبار واستكبار ، أبواب جهنمية سبع فتحها الوليد ليحرق بنيرانها وحي القرآن ، ولكن هذه التقولة الجهنمية