لم تفضح إلا إياه لمن فكر وقدر ونظر حقه دون ادبار واستكبار.
فكر في القرآن الذي سمعه واحتار في أمره واقشعر ، وقدره وقايسه بسائر الكلام من نظم ونثر ، ثم نظر فيما قدر فلم يقدر على شيء يبطل به وحي القرآن حالات ثلاث كلها فكرية قلبية ، فلما لم يجد حيلة عبس في وجهه وبسر ، تدليلا على أنه يواصل في عمق التفكير والتقدير ، وإن كان كذلك ، ولكنه عبس القلب وبسره بعجزه ، ظهر على وجهه وملامحه ، ثم أدبر عما حصل بتفكيره وتقديره ونظره ، واستكبر عن إظهار الحق ، فلم يجد بدا أن يخلطه بالباطل ليستره على الجاهلين وقد ستر.
إن العبس هو قطوب ما بين العينين ، والبسر الاستعجال بالشيء قبل أوانه ، فقد عبس حيث احتار بين أمرين ١ ـ نصوع وحى القرآن فكيف يكذبه ٢ ـ عناده لنبي القرآن فكيف يصدقه ، ولذلك «بسر» : استعجل في حكمه دون أن يتأمل في مغزاه ، أنه سوف يفضحه ، فآثر عاجل دنياه على آجل عقباه ، واستعجل عذابه النفسي هنا بما أبداه من تناقض «سحر يؤثر» قبل أن يأخذه عذابه الشامل يوم الطامة الكبرى.
(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) : إنه قتل نفسه بتقديره مرتين : في الدنيا إذ فضح نفسه بما أنتجه من تناقض : «سحر يؤثر» وفي الآخرة إذ يصلى سقر ، وكل ذلك بما قتل ضميره في حكمه الباطل ، رغم معرفته بحق الوحي القرآني (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا).
ف «قتل» هنا وهناك إخبار لا دعاء ، وحاش ربنا عن الدعاء ، فانه ليس إلا لمن يعجز عن الوصول إلى بغيته ، فيدعو غيره ليوصله ، فهل لربنا رب يدعوه؟ .. وإنما كيفية تقديره بما فكره قبله ونظره بعده ، إنها قتلته وفضحته وعذبته ، بما قتل حينذاك ضميره المدرك ، تأمل.