فكيف طغا الماء؟ وما هي الجارية؟ وكيف حملتنا ولم نكن وقتئذ وإنما كان أجدادنا؟.
طغا الماء كما أراد الله : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥٤ : ١١).
ولقد سميت سفينة نوح بالجارية لأنها كانت تجري في اليم المحيط ، وتسمى السفن جواري : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٥٥ : ٢٤).
وأما كيف حملتنا؟ إنها حملتنا ونحن ذرية في أصلاب آبائنا المحمولين فيها ، فقد حملنا بما حملوا ، رحمة مزدوجة من ربنا : لنا ولهم ، فكما يمن عليهم كذلك علينا وأحرى إذ حملنا ولم نكن شيئا مذكورا ، إلا ذرية ، وهو آية للرحمة والقدرة الإلهية : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٣٦ : ٤١) فليست «ذريتهم» ـ وهم الموجودون حين نزول الآية ـ إنها ليست أبناءهم ، كيف ولم يكونوا موجودين وقتذاك فضلا عن أولادهم ، ولا أجدادهم ، لأنهم ليسوا ذرية في أية لغة واصطلاح ، وإنما (ذُرِّيَّتَهُمْ) هم أنفسهم إذ كانوا ذرية (اضافة الشيء إلى نفسه اعتبارا بالحالة المسبقة) كما يقال : نطفتك ـ ميتتك ـ جيفتك ، والمعنى فيها أنت حينما كنت نطفة ، وحين تكون ميتة وجيفة كذلك الحال في (ذُرِّيَّتَهُمْ) فهم أنفسهم إذ كانوا ذرية في أصلاب آبائهم ، ولئن كان هذا المعنى خفيا في البداية ، فقرينة آية الجارية : (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) وكذلك نفس آية الذرية (١) ، فيهما الكفاية التامة لحصر معناها في إضافة الذرية إلى نفسها : (ذُرِّيَّتَهُمْ) حملناهم إذ كانوا ذرية ، وما أحسنه تعبيرا عن الحالة المسبقة الضئيلة للإنسان ، ولكي يتنبه نعمة الله عليه إذ لم يكن شيئا مذكورا.
__________________
(١) إذ لا يمكن أن يراد منها الأبناء والأجداد.