فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) أرادوا من العذاب. وإنما جاز الإطلاق لأنه كان معلوما. واستعجالهم له لتكذيبهم به ، ولذلك علقوه بما هم به كافرون ، وهو كونه من المرسلين (الرَّجْفَةُ) الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها (فِي دارِهِمْ) في بلادهم أو في مساكنهم (جاثِمِينَ) هامدين لا يتحركون موتى. يقال : الناس جثم ، أى قعود لا حراك بهم ولا ينبسون نبسة. ومنه المجثمة التي جاء النهى عنها (١) ، وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى. وعن جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال : «لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة ، فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله. قالوا من هو؟ قال : ذاك أبو رغال ، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه (٢)» وروى أنّ صالحاً كان بعثه إلى قوم فخالف أمره. وروى أنه عليه السلام مرّ بقبر أبى رغال فقال : «أتدرون من هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبى رغال ، وأنه دفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب» فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن (٣). (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) الظاهر أنه كان مشاهدا لما جرى عليهم ، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين ، تولى مغتمّ متحسر على ما فاته من إيمانهم يتحزن لهم ويقول (يا قَوْمِ لَقَدْ) بذلت فيكم وسعى ولم آل جهداً في إبلاغكم والنصيحة لكم ولكنكم (لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ويجوز أن يتولى عنهم تولى ذاهب عنهم ، منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب. وروى أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ، ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروى أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكى ، فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا ، وكانوا ألفا وخمسمائة دار. وروى أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم. فإن قلت : كيف صحّ خطاب الموتى وقوله (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)؟ قلت : قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة : يا أخى ، كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل منى؟ وقوله (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) حكاية حال ماضية.
__________________
(١) أما النهى فرواه أصحاب السنن وابن حيان والحاكم من حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من في السقاء ، وعن ركوب الجلالة ، وعن المجثمة» ورواه البزار من طريق الوراق عن قتادة عن أنس مثله. وكذا قال ، وأخرجه البزار وقال : إسناده حسن. ومن حديث العرباض بن سارية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المجثمة ، أخرجه الترمذي وحسنه من رواية سعيد بن المسيب عن أبى الدرداء قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل المجثمة وهي التي تضرب بالنبل».
(٢) أخرجه ابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق والطبري من رواية عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبى الزبير عن جابر ـ وزاد «في غزوة تبوك» ، فقام فخطب الناس.
(٣) أخرجه أبو داود وابن حبان والطبراني والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل من رواية بجير بن أبى بجير عن عبد الله بن عمرو بن العاص ولفظه «فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن» وأما قوله «فبحثوا عنه بأسيافهم» فأخرجه عبد الرزاق عن معمر مرسلا.