عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)(٧٩)
(لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) للذين استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم ، و (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من الذين استضعفوا. فان قلت : الضمير في منهم راجع إلى ما ذا (١)؟ قلت: إلى (قَوْمِهِ) أو إلى (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا). فإن قلت : هل لاختلاف المرجعين أثر في اختلاف المعنى؟ قلت : نعم وذلك أن الراجع إذا رجع إلى قومه فقد جعل (لِمَنْ آمَنَ) مفسراً لمن استضعف منهم ، فدل أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين ، وإذا رجع إلى الذين استضعفوا لم يكن الاستضعاف مقصوراً عليهم ، ودلّ أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) شيء قالوه على سبيل الطنز والسخرية ، كما تقول للمجسمة : أتعلمون أن الله فوق العرش. فان قلت : كيف صحّ قولهم (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) جوابا عنه (٢)؟ قلت : سألوهم عن العلم بإرساله ، فجعلوا إرساله أمراً معلوماً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب ، كأنهم قالوا : العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه (٣) ولا شبهة يدخله لوضوحه وإنارته ، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به ، فنخبركم أنا به مؤمنون ، ولذلك كان جواب الكفرة (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٤) فوضعوا (آمَنْتُمْ بِهِ) موضع (أُرْسِلَ بِهِ) رداً لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلماً (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم وإن لم يباشره إلا بعضهم ، وقد يقال للقبيلة الضخمة : أنتم فعلتم كذا ، وما فعله إلا واحد منهم (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) وتولوا عنه واستكبروا عن امتثاله عاتين ، وأمر ربهم : ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أو شأن ربهم وهو دينه. ويجوز أن يكون المعنى : وصدر عتوّهم عن أمر ربهم ، كأن أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم. ونحو عن هذه ما في قوله(وَما
__________________
(١) قال محمود : «إن قلت الضمير في منهم راجع إلى ما ذا؟ قلت : إلى قومه ... الخ» قال أحمد : فقوله (لِمَنْ) على الأول بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة. وعلى الثاني بدل بعض من كل.
(٢) عاد كلامه. قال محمود : «فان قلت كيف وقع قولهم إنا بما أرسل به مؤمنون جوابا ... الخ» قال أحمد : وقولهم (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ليس إخباراً عن وجوب الايمان به ، بل عن امتثال الواجب والعمل به ، ونحن قد امتثلنا.
(٣) قوله «ما لا كلام فيه» لعله : مما لا كلام فيه. (ع)
(٤) عاد كلامه. قال محمود : «ولذلك كان جواب الكفرة إنا بالذي ... الخ» قال أحمد : ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا : إنا بما أرسل به كافرون ، ولكن أبوا ذلك حذراً مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته وهم يجحدونها. وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم ، كما قال فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) فأثبت إرساله تهكما ، وليس هذا موضع التهكم ، فان الغرض إخبار كل واحد من الفريقين المؤمنين والمكذبين عن حاله ، فلهذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الايمان بالرسالة احتياطاً للكفر وعلواً في الإصرار.