الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، وفرّقوا بين النساء والصبيان ، وبين الدواب وأولادها ، فحنّ بعضها على بعض ، وعلت الأصوات والعجيج ، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا ، فرحمهم الله وكشف عنهم ، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم ، حتى إنّ الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيردّه ، وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم : قولوا «يا حىّ حين لا حىّ ، ويا حىّ محيى الموتى ، ويا حىّ لا إله إلا أنت» فقالوها فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض : قالوا : «اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت ، وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله».
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٩٩)
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مشيئة القسر (١) والإلجاء (٢) (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ) على وجه الإحاطة والشمول (جَمِيعاً) مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه. ألا ترى إلى قوله (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) يعنى إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت. وإيلاء الاسم حرف الاستفهام ، للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الشأن في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه ، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرّون عنده إلى الإيمان ، وذلك غير مستطاع للبشر.
(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)(١٠٠)
__________________
(١) قوله «مشيئة القسر» هذا مذهب المعتزلة ، وذلك أنهم أوجبوا على الله الصلاح والأصلح ، وإيمان الكل أصلح ، لكن الآية تخالف مذهبهم فقالوا : إنه تعالى أراد إيمان الكل إرادة تخيير العباد ، فلم يلزم وقوع المراد ، ولو أراده إرادة إجبار لوقع ، وأهل السنة لم يوجبوا على الله شيئا ، ولزوم وقوع المراد لا ينافي تخيير العباد ، لما لهم من الكسب في أفعالهم الاختيارية وإن كان فاعلها في الحقيقة هو الله ، كما تقرر في التوحيد. (ع)
(٢) قال محمود : «المراد مشيئة القسر والإلجاء» قال أحمد : وهذا من دسه الاعتزال مخلسا ، وخلط الباطل بالحق مدلسا. ولما علم أن الآية تقتضي عدم مشيئة الله تعالى لايمان الخلق بصيغة الكلية ، وأنه إنما شاء ذلك ممن آمن لا ممن كفر ـ إذ مقتضى «لو لا» امتناع ، وكان ذلك راد لمعتقده الفاسد ، إذ يزعمون أن الله تعالى شاء الايمان من جميع أهل الأرض ، فلم يؤمن إلا بعضهم ـ أخذ يحرف مشيئة الايمان إلى مشيئة القسر والإلجاء ، ليتم له أن المشيئة المرادة في الآية لم تقع ، إلا أنا نوافقه على أن الله تعالى ما قسر الخلق ولا سلب اختيارهم ، بل أمرهم بالايمان وخلق لهم اختيارا له وقصداً ، وهذا كما ترى لا يعد في التأويل. بل هو أجدر بالتعطيل ، فوجب رده وإقرار الظاهر على حاله ، نعوذ بالله من زيغ الشيطان وإضلاله ، والله الموفق.