على الفور من غير ريث ، فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولا لا حبس ولا إبطاء. والبلع : عبارة عن النشف. والإقلاع : الإمساك. يقال : أقلع المطر وأقلعت الحمى (وَغِيضَ الْماءُ) من غاضه إذا نقصه (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وأنجز ما وعد الله نوحا من هلاك قومه (وَاسْتَوَتْ) واستقرّت السفينة (عَلَى الْجُودِيِ) وهو جبل بالموصل (وَقِيلَ بُعْداً) يقال بعد بعدا وبعدا ، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك ، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبنى للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء ، وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر ، وتكوين مكون قاهر ، وأنّ فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله ، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعى ، ولا أن يقضى ذلك الأمر الهائل غيره ، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره ، ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤسهم ، لا لتجانس الكلمتين ، وهما قوله (ابْلَعِي) و (أَقْلِعِي) وذلك وإن كان لا يخلى الكلام من حسن ، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور. وعن قتادة : استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب ، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم ، واستقرّت بهم على الجودي شهراً ، وهبط بهم يوم عاشوراء. وروى أنها مرت بالبيت فطافت به سبعا ، وقد أعتقه الله من الغرق. وروى أنّ نوحا صام يوم الهبوط وأمر من معه فصاموا شكراً لله تعالى.
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٤٦)
نداؤه ربه : دعاؤه له ، وهو قوله (رَبِ) مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله. فإن قلت : فإذا كان النداء هو قوله (رَبِ) فكيف عطف (فَقالَ رَبِ) على (نادى) بالفاء؟ قلت : أريد بالنداء إرادة النداء ، ولو أريد النداء نفسه لجاء ، كما جاء قوله (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِ) بغير فاء (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أى بعض أهلى ، لأنه كان ابنه من صلبه ، أو كان ربيبا له فهو بعض أهله (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) وأن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به ، وقد وعدتني أن تنجي أهلى ، فما بال ولدى؟ (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أى أعلم الحكام وأعدلهم (١) ، لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل. ورب غريق في الجهل
__________________
(١) قال محمود : «قال أى أعلم الحكام وأعدلهم ، لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم ... الخ» قال أحمد :