دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه. فإن قلت : لم سمى نداؤه سؤالا ولا سؤال فيه؟ قلت : قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به ، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق فقد استنجز. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة ، ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين. فإن قلت : قد وعده أن ينجى أهله ، وما كان عنده (١) أن ابنه ليس منهم ديناً ، فلما أشفى على الغرق تشابه عليه الأمر ، لأن العدة قد سبقت له وقد عرف الله حكيما لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد ، فطلب إماطة الشبهة وطلبُ إماطة الشبهة واجب ، فلم زجر وسمى سؤاله جهلا؟ قلت : إن الله عز وعلا قدّم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم ، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح ، وأن كلهم ليسوا بناجين ، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه.
(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٤٧)
(أَنْ أَسْئَلَكَ) من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته ، تأدباً بأدبك واتعاظاً بموعظتك (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما فرط منى من ذلك (وَتَرْحَمْنِي) بالتوبة علىّ (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أعمالا.
__________________
(١) قال محمود : «فان قلت قد وعده الله أن ينجي أهله وما كان عنده ... الخ» قال أحمد : وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك ، وليس الأمر كما تخيله الزمخشري ، ونحن نوضح الحق في الآية منزلا على نصها مع تنزيه نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول : لما وعد نوح أولا تنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه المذكور ولا مطلعاً على باطن أمره بل معتقداً بظاهر الحال أنه مؤمن ، بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين ، فسأل الله فيه بناء على ذلك ، فتبين له أنه في علمه من المستثنين ، وأنه هو لا علم له بذلك ، فلذلك سأل فيه ، وهذا بأن يكون إبانة عذر أولى منه أن يكون عتباً ، فان نوحا عليه السلام لا يكلفه الله علما استأثر به غيبا. وأما قوله (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فالمراد منه النهى عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه الله باطن أمره ، وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين. والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمة العصمة ، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب ، بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ، ولذلك مثل عليه الصلاة والسلام ذلك ، واستعاذ بالله أن يقع منه ما نهى عنه والله أعلم.