(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(٨٦)
(إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) يريد : بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف. أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون. أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه ، كقول مؤمن آل فرعون (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا)(يَوْمٍ مُحِيطٍ) مهلك من قوله (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) وأصله من إحاطة العدوّ. فإن قلت : وصف العذاب بالإحاطة أبلغ ، أم وصف اليوم بها؟ قلت : بل وصف اليوم بها ، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه. فإن قلت : النهى عن النقصان أمر بالإيفاء (١) فما فائدة قوله أوفوا؟ قلت : نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ، لأنّ في التصريح بالقبيح نعياً على المنهي وتعييراً له ، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه ، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه ، وجيء به مقيداً بالقسط : أى ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية ، من غير زيادة ولا نقصان ، أمراً بما هو الواجب ، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه. وفيه توقيف على أنّ الموفى عليه أن ينوى بالوفاء بالقسط ، لأنّ الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل ، فهذه ثلاث فوائد.
البخس : الهضم والنقص. ويقال للمكس : البخس. قال زهير :
__________________
(١) قال محمود : «إن قلت النهى عن النقصان أمر بالإيفاء ... الخ» قال أحمد : ولمن قال إن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده أن يستدل بهذه الآية ، فان الأمر لو كان عين النهى عن الضد ، لكان وروده عقيبه تكراراً. وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه وهم ، فاعتقد أن النهى في الآية قبل الأمر ، وذلك سهو وغفلة ، وكل مأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم : وأما قوله : إن الإيفاء حسن في العقول ، فتفريع على قاعدة التحسين والتقبيح ، وقد سبق بطلانها ، وبينا أن التحسين والتقبيح موظفان من الشرع ، ولا مجال العقل في حكم سمعي.