وَفِى كُلِّ مَا بَاعَ امْرُؤٌ بَخْسُ دِرْهَمِ (١)
وروى : مكس درهم ، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً ، كما تفعل السماسرة. أو كانوا يمكسون الناس. أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء ، فنهوا عن ذلك. والعثى في الأرض نحو السرقة والغارة وقطع السبيل. ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض (بَقِيَّتُ اللهِ) ما يبقى لكم من الحلال (٢) بعد التنزه عما هو حرام عليكم (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرط أن تؤمنوا ، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان. فإن قلت : بقية الله خير للكفرة ، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس (٣) والتطفيف ، فلم شرط الإيمان؟ قلت : لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ، وخفاء فائدتها مع فقده لانغماس صاحبها في غمرات الكفر. وفي ذلك استعظام للإيمان ، وتنبيه على جلالة شأنه. ويجوز أن يراد : إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم. ويجوز أن يراد. ما يبقى لكم عند الله من الطاعات خير (٤) لكم ،
__________________
(١) أفى كل أسواق العراق إتاوة |
|
وما كل ما باع امرؤ مكس درهم |
ألا تستحي منا ملوك وتتقى |
|
محارمنا لا تتقى الدم بالدم |
لزهير. وقيل : لجابر بن حيي التغلبي ، والاستفهام للتعجب أو للتوبيخ ، والاتاوة كالكتابة : الرشوة والجعالة : يقال : أتوته أأتوه أتوا وإتاوة : أعطيته الخراج ، فهي في الأصل مصدر. والمكس : ما يأخذه العشار. ويروى «بخس درهم» أى نقص درهم» وكان أهل العراق يفعلون ذلك في أسواقهم مع العرب وغيرهم ، فقال زهير : لا ينبغي ذلك. و «ألا» في الأصل مركبة من همزة الاستفهام التوبيخي ولا النافية ، فصارت أداة تحضيض. ويقال : استحيا واستحى كما هنا ، بنقل حركة الياء إلى الحاء وحذفها ، أى : لتستح منا الملوك ، وتتوقى عقوبة التعرض لمحارمنا وأموالنا ، لئلا تتوقى القتل منا لهم بقتلنا لبعضهم ، أى لئلا ترجع إلا بذلك ، أو لئلا تتوقى أخذ الدم بدل الدم. وروى «ألا يستحى منا المليك ويتقى» إلى آخره ، وهو لغة في الملك ، والمراد به ملك العراق.
(٢) قال محمود : «بقية الله ما يبقى لكم من الحلال ... الخ» قال أحمد : المنقول عن المعتزلة أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة ، لا نهيا ولا أمرا ، وقد جوز بعضهم خطابهم بالنهى. وهذه الآية تدل على أنهم مخاطبون في حال الكفر بشرط الايمان ، وقد قررها الزمخشري على ذلك.
(٣) عاد كلامه. قال : «فان قلت بقية الله خير للكفرة لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس ... الخ» قال أحمد : وهذا أيضا من إقرار الزمخشري للآية على ظاهرها ، ومعنى السؤال : أن الكفار إذا قدرنا خطابهم بالفروع ، انتفعوا باجتناب المنهيات في الدار الآخرة ، لأن ثمرة الخلاف في مسألة خطاب الكفار إنما تظهر في الدار الآخرة ، وإذا كانوا ينتفعون بذلك فلا معنى لاشتراط الايمان والحال مع وجوده وعدمه في الانتفاع بالامتثال سواء. ومعنى الجواب : أن ظهور الانتفاع بالامتثال إنما يتحقق مع الايمان ، وأما مع الكفر فهم مخلدون في العذاب ، فإنما تظهر الفائدة على خفاء في تحقيق مأمن العذاب ، والله الموفق.
(٤) عاد كلامه. قال : «ويجوز أن يراد ما يبقى لكم من الطاعات عند الله ... الخ» قال أحمد : قد تقدم أن عقيدة أهل السنة : أن لا خالق ولا رازق إلا الله ، إيمانا بقوله (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ) وإذا كان الرزق عبارة عن كل ما يقيم به الخلق بنيتهم ، لزم اندراج الحرام في هذا الإطلاق عقداً وحقيقة. وأما إطلاق القول بإضافته على الخصوص إلى الله تعالى ، فأمر خارج عن الاعتقاد راجع إلى الاتباع ، والله الموفق.