ما احتملت : أنك آنست وحشة الظالم ، وسهلت سبيل الغى بدنوّك ممن لم يؤدّ حقاً ولم يترك باطلا ، حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيك إلى ضلالهم ، يدخلون الشكّ بك على العلماء ، ويقتادون بك قلو ، الجهلاء ، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك (١) من دينك ، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) فإنك تعامل من لا يجهل ، ويحفظ عليك من لا يغفل ، فداو دينك فقد دخله سقم ، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ، والسلام. وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعى : ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا. وعن محمد ابن مسلمة : الذباب على العذرة ، أحسن من قارئ على باب هؤلاء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه (٢)» ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية ، هل يسقى شربة ماء؟ فقال : لا ، فقيل له : يموت؟ فقال : دعه يموت. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) حال من قوله (فَتَمَسَّكُمُ) أى : فتمسكم النار وأنتم على هذه الحال. ومعناه : وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه ، لا يقدر على منعكم منه غيره (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) ثم لا ينصركم هو ، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم. فإن قلت : فما معنى ثم؟ قلت : معناها الاستبعاد ، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب واقتضاء حكمته له.
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ)(١١٤)
(طَرَفَيِ النَّهارِ) غدوة وعشية (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وساعات من الليل وهي ساعاته القريبة من آخر النهار ، من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه ، وصلاة الغدوة : الفجر. وصلاة العشية : الظهر والعصر ، لأنّ ما بعد الزوال عشىّ. وصلاة الزلف : المغرب والعشاء. وانتصاب طرفى النهار على الظرف ، لأنهما مضافان إلى الوقت ، كقولك : أقمت عنده جميع النهار ، وأتيته نصف النهار
__________________
(١) قوله «وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك» لعل هنا سقطاً تقديره : في جنب ما أعطوك ، وما أقل ما أصلحوا لك في جنب ما أفسدوا ... الخ. (ع)
(٢) قد رواه البيهقي في السادس والستين من الشعب من رواية يونس بن عبد عن الحسن من قوله. وذكره أبو نعيم في الحلية من قول سفيان الثوري.