(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١١٥)
ثم كرّ إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير ، وهذا الكرور لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله ، كأنه قال : وعليك بما هو أهمّ مما ذكرت به وأحق بالتوصية ، وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه ، فلا يتم شيء منه إلا به (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) جاء بما هو مشتمل على الاستقامة وإقامة الصلوات والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظالمين والصبر وغير ذلك من الحسنات.
(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ)(١١٦)
(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ) فهلا كان. وقد حكوا عن الخليل : كل «لو لا» في القرآن فمعناها «هلا» إلا التي في الصافات ، وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) ، (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) ، (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ). (أُولُوا بَقِيَّةٍ) أو لو فضل وخير. وسمى الفضل والجودة بقية لأنّ الرجل يستبقى مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلا في الجودة والفضل. ويقال : فلان من بقية القوم ، أى من خيارهم. وبه فسر بيت الحماسة :
إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِى بَقِيَّتُكُمْ (١)
__________________
ـ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وضوآً حسنا ثم صل. فأنزل الله تعالى الآية. فقال معاذ : أهى له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال : بل للمسلمين عامة. وأصل الحديث في الصحيحين عن ابن مسعود وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنى عالجت امرأة في أقصى المدينة وإنى أصبت منها دون أن أمسها وأنا هذا فاقض فىّ ما شئت. فقال له عمر : لقد سترك الله لو سترت على نفسك ولم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا. فدعاء فتلا عليه (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ...) الآية فقال رجل من القوم : يا رسول الله أله خاصة أم للناس؟ فقال : بل للناس كافة».
(١) يا أيها الراكب المزجى مطيته |
|
سائل بنى أسد ما هذه الصوت |
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا |
|
قولا يبرئكم إنى أنا الموت |
إن تذنبوا ثم يأتينى بقيتكم |
|
فما علىّ بذنب عندكم فوت |
لروشيد بن كثير الطائي. وزجاه ـ بالتخفيف والتشديد ـ وأزجاه : ساقه. وأراد بالصوت : الصيحة أو القصة التي بلغته عنه ، وأخبر عن نفسه بالموت مبالغة. وبقية القوم : خيارهم ، وتأتى مصدراً بمعنى البقوى ، كالتقية بمعنى التقوى. والمعنى على الأول. إن تذنبوا ثم يأتينى أماثلكم يعتذرون عنكم فلا فوت ، ولا بأس علىّ بسبب ذنب غيركم. وعلى الثاني : ثم يأتينى منكم ذو الإبقاء على أنفسهم ، يقولون : لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا ، فكذلك. ويجوز أن المعنى : إن تجتمعوا على للمحاربة أو للاعتذار ، فلا تفوتني مؤاخذتكم بل لا بد منها. وإثبات الياء في «يأتينى» للإشباع ، لكن الأخير غير مناسب لقوله «بادروا بالعذر».