ومنه قولهم : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى ، كالتقية بمعنى التقوى ، أى : فهلا كان منهم ذو وبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه. وقرئ : أولو بقية ، بوزن لقية ، من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره ومنه : «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم (١)» والبقية المرّة من مصدره. والمعنى : فلو كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله ، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء منقطع ، معناه : ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهم تاركون للنهى. و (مِنَ) في (مِمَّنْ أَنْجَيْنا) حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض ، لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم ، بدليل قوله تعالى (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا). فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت : إن جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام ، كان المعنى فاسداً ، لأنه يكون تحضيضاً لأولى البقية على النهى عن الفساد ، إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم ، تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت في تحضيضهم على النهى عن الفساد معنى نفيه عنهم ، فكأنه قيل : ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا ، كان استثناء متصلا ومعنى صحيحاً ، وكان انتصابه على أصل الاستثناء ، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أراد بالذين ظلموا : تاركي النهى عن المنكرات ، أى : لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين ، وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وعقدوا هممهم بالشهوات ، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف ، من حب الرياسة والثروة ، وطلب أسباب العيش الهنيء. ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ، واتبع الذين ظلموا ، يعنى : واتبعوا جزاء ما أتوفوا فيه. ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة : أنهم اتبعوا جزاء إترافهم. وهذا معنى قوىّ لتقدم الإنجاء ، كأنه قيل : إلا قليلا ممن أنجينا منهم وهلك السائر. فإن قلت : علام عطف قوله (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)؟ قلت : إن كان معناه : واتبعوا الشهوات ، كان معطوفاً على مضمر ، لأنّ المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد ، واتبع الذين ظلموا شهواتهم ، فهو عطف على نهوا. وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف ، فالواو للحال ، كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. فإن قلت : فقوله (وَكانُوا مُجْرِمِينَ)؟ قلت : على أترفوا أى : اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين ، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. أو أريد بالإجرام
__________________
(١) أخرجه أبو داود من حديث معاذ بن جبل قال «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة ، فتأخر حتى ظن الظان أنه ليس بخارج ... الحديث».