جميع ممن خلقنا» أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم ، ولكنهم لا يشعرون. فانظر إلى تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى ، كأنّ جبريل عليه السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط ، فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم (١)
(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(٧١)
قرئ : يدعو ، بالياء والنون. ويدعى كل أناس ، على البناء للمفعول. وقرأ الحسن : يدعوا كل أناس ، على قلب الألف واوا في لغة من يقول : افعوا. والظرف نصب بإضمار اذكر. ويجوز أن يقال : إنها علامة الجمع ، كما في (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) والرفع مقدّر كما في : يدعى ، ولم يؤت بالنون ، قلة مبالاة بها ، لأنها غير ضمير ، ليست إلا علامة (بِإِمامِهِمْ) بمن ائتموا به من نبىّ أو مقدّم في الدين ، أو كتاب ، أو دين (٢) ، فيقال : يا أتباع فلان ، يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ، ويا أصحاب كتاب الشرّ. وفي قراءة الحسن : بكتابهم. ومن بدع التفاسير : أن الإمام جمع أمّ ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم ، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الاباء رعاية حق عيسى عليه السلام ، وإظهار شرف الحسن والحسين ، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟ (فَمَنْ أُوتِيَ) من هؤلاء المدعوّين (كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) قيل أولئك ، لأن من أوتى في معنى الجمع. فإن قلت : لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرؤن كتابهم. قلت : بلى ، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم ، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته ، والاعتراف بمساويه ، أما التنكيل به والانتقام منه ، من الحياء والخجل والانخزال ، وحبسة اللسان ، والتتعتع ، والعجز عن إقامة حروف الكلام ، والذهاب عن تسوية القول ، فكأن قراءتهم كلا قراءة. وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك ، لا جرم أنهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة وأبينها ، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارئ لأهل المحشر : (هاؤُمُ
__________________
(١) قوله «فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم» في الصحاح «السخيمة» الضغينة والموجدة في النفس. (ع)
(٢) قال محمود : «بإمامهم معناه بمن ائتموا به من نبى أو كتاب أو دين ... الخ» قال أحمد : ولقد استبدع بدعا لفظا ومعنى ، فان جمع الأم المعروف أمهات ، أما رعاية عيسى عليه السلام بذكر أمهات الخلائق ليذكر بأمه ، فيستدعى أن خلق عيسى من غير أب غميزة في منصبه ، وذلك عكس الحقيقة ، فان خلقه من غير أب كان آية له ، وشرفا في حقه ، والله أعلم.